الثلاثاء، 17 مايو 2016

مذكرات / اعترافات ( تجربتي مع المطاوعة في الرياض ) ستبكي

مذكرات/اعترافات(تجربتي مع المطاوعة في الرياض) ستبكي

الكاتب: التـائـه
-1-
ما يهمّ هو الحقيقة. لدي الآن كل السكينة لكي أعيش براحة واستقرار. سأتكلم؛ سأكشف خفايا مهمة في حياتي. إنني أحسّ بأني مُثقلُ بعض الشيء وذلك لا لأني مررت بتجربة قاسية، بل لأني عشت تحت وطأة الصمت عما حصل لي. ذاكرتي مملؤة بتجربة عنيفة ومتعبة.



مرت أكثر من عشر سنوات على اليوم الذي دخلت فيه في لُجّة دوامة عميقة. لقد عشت الذل يوماً وراء يوم وساعة أثر ساعة، مضغته مع كبريائي، وافتقدته كل لحظة من لحظات تلك الأيام..
نزفت التعب حتى جفّ رأسي؛ وتخلصت من أثقال كبلت ظهري ويدي وشلت لساني وأعشت عيني. أنا اليوم حر، أعرف معنى الإنسانية وأعلم جيداً من هو الإنسان.
لقد رباني أهلي على الصلاة وطاعة الوالدين والخوف من الله؛ ونشأت كبقية أبناء قريتي ؛ أحدى قرى أطراف نجد؛ نشأنا متدينيين بالفطرة، نحب الله والرسول والإسلام؛ ونحب أعمال الخير من صدقات ومساعدة للمحتاجين. ودرسنا حتى الثانوية دون أن يتغير علينا شيء، خطيب الجمعة في القرية هو نفسه منذ عهد جدي يقرأ من كتاب قديم معه ولا تتغير الخطبة أبداً سوى في العيدين و هو بالاضافة الى ذلك شاعر قلطة كثير ما يطرب ابناء القرية في الاحتفالات بشعره الجزل . مدرسونا كذلك كانوا من أهل القرية وبعضهم من مصر وفلسطين وهم قريبون من أهل القرية في طباعهم وتدينهم البسيط.
حينما انتقلت الى الرياض للدراسة الجامعية، مرت سنتان لم أشعر بشيء مختلف سوى أنني انتقلت من قرية الى مدينة ومن مدرسة الى جامعة، وحافظت على طريقتي في الدراسة كما أنني محافظ على صلاتي. وفي السنة الثالثة تعرفت على شخص من نفس قبيلتي وهو في السنة الأخيرة، وبدأ يعطيني معلومات وجدتها مفيدة عن أساتذة القسم وعن صعوبة المواد؛ وارتحت له، فعزمته على المطعم وقضينا وقتا ممتعا لا أدري عن أي شيء كنا نتحدث لكن المهم أنه في نهاية اللقاء تواعدنا أن نلتقي مرة أخرى. وبعد أسبوع قابلني في الجامعة وعزمني على عشاء يوم الأربعاء القادم في الثمامة خارج الجامعة وقال إن الشباب سوف يجتمعون هناك؛ ولأني لا أعرف من هم هؤلاء الشباب فقد أثرت السكوت وعدم السؤال لأن كلمة الشباب كلمة متداولة بين الناس. كانت هذه أول مرة أسمع بالثمامة؛ ولأنني لا أملك سيارة وقتها فقد اعتذرت منه ولكنه تكفل بأخذي من السكن وإرجاعي.
وحينما وصلنا إلى الموقع في مخيم قريب من الطريق السريع استقبلنا الحاضرون وكانوا بحدود العشرة أشخاص. مر وقت بين شرب القهوة ثم الشاي وبعض السواليف حتى جاء العشاء. وبعد العشاء اجتمعوا لشرب الشاي وما إن جلسنا حتى بدأ أحدهم يتكلم بلغة غريبة علي وجديدة في نفس الوقت. بدأ يتكلم باللغة الفصحى التي لم أعتد أن يتحدث بها أحد في المجالس باعتبارها لغة رسمية للتلفزيون وللراديو وللخطب والمحاضرات؛ ولم أكن أعلم أنه يقدم محاضرة. قال كلاما كثيراً لا أذكر أكثره ولكن الفكرة العامة التي يتحدث عنها كانت عن أهمية حفظ القرآن الكريم ودراسته.
وبعد انتهائه من محاضرته دارت تعليقات قليلة حول اهتمام الناس بالمغنين وإهمالهم لحفظة القرآن، ثم حديث عن أفضل قارئ للقرآن كالمحيسني والسديس و باجابر. و شكره الحضور ولاحظت تكرارهم لعبارة "جزاك الله خير" كانت هذه عبارة جديدة علي، وقلتها متابعة لهم. وفيما بعد عرفت أنها تعتبر من عبارات أهل الرياض بشكل عام وبالمطاوعة بشكل خاص، ويظهر أنها انتقلت إلى بعض المناطق بسرعة في السنوات الأخيرة فقد سمعت بعضهم يقولها في قريتي منذ فترة قريبة.
وبعد فترة صرت أقابل بعض من تعرفت عليهم في ذلك العشاء في الجامعة، ويصرون علي أن أحضر معهم درس في المسجد الجامعي بعد المغرب، وحضرت عدة مرات ولا أتذكر من المحاضرات التي حضرتها في المسجد شيئا الآن، إذ يبدو أني لم أكن مهتما بالأمر. لكن طالبا من الرياض تعرف علي وعزمني إلى بيتهم وقابلت والده وإخوته وصار يزورني باستمرار وفي نهاية الأسبوع يأخذني بسيارته لنتجول في الرياض، وكان يسمعني بعض الكاسيتات الإسلامية. والحق أنه سبق أن سمعت شخصا معه كاسيت لبرنامج نور على الدرب، لكنها أول مرة أسمع فيها شيوخ بعضهم يصرخ والآخر يبكي كشخص اسمه الحماد يتباكى ويهول العذاب يوم القيامة حتى لتشعر أنك في جهنم لا محالة!
فيما بعد بدأت أشعر أنني عاصي ومخالف وبدأت بالخوف من التهديدات بالنار، وصرت أطيل الصلاة وأقرأ القرآن بكثرة وبرهبة وأحس وكأنني مجرم ومن أهل النار دون أن أذكر أنني آذيت نملة! لكن هكذا تصورت بسبب تأثيرهم على عقلي الغض آنذاك. واستمر هذا الصديق بزيارتي وإهدائي بعض الكاسيتات حتى تعلقت بالقرني والعودة والعمر و الحوالي وبن مسفر و الطريري و العشماوي وغيرهم من أصحاب الكاسيتات؛ وصرت أطارد كل جديد لهم، ولم تكن تواجهني مشكلة مالية فالكاسيتات تُوزع مجانا مقابل مسجد الملك خالد بأم الحمام القريب من الجامعة وتجد من يوزع دهن العود والورد على الحضور. وكنت أحضر بعض دروس الشيخ الكلباني الذي يتوشح بشتا بنياً أو أصفر ويتميز بلغة عنيفة وببكاء أثناء قراءة الفاتحة أو قراءة آيات أصحاب الكهف أو سورة (ق) التي يكثر من ترديدها في الصلوات.
لقد أثر هذا النشاط والاهتمام على دراستي وبدأ واضحاً من خلال هبوط علاماتي؛ ولكني كنت أمنّي نفسي بأن الله سوف يساعدني وكنت أكتب على ورقة الامتحان دعاء تعلمته من الكاسيتات وهو دعاء الامتحان لكي يسهله الله عليك؛ لكن الامتحان لم يتغير ودرجاتي لم تزداد. وهذا لم يؤثر في لاسيما وأن صديقي قد اكتشف لديّ موهبة قراءة القرآن بصوتي لأنني صرت أقلد صوت الكلباني؛ فصرت أنا الإمام في البيت إذا لم نذهب إلى المسجد. وكنت أجد في إعجابهم بصوتي ما يدفعني للحماس والإيغال في التميز؛ والتميز في نظري ونظر من هو على شاكلتي يعني التعمق في الدين والتشدد فيه.
لم تكن مفاجأة سارة لأمي حينما زرتها في الإجازة بين الفصلين حينما رأت لحيتي قد طالت وثوبي قد قصر. صُدمت بأن ابنها صار يشبه "جهيمان" الذي سيرته في القرية قبيحة للغاية. بكت كثيراً وتوسلت إلي أن أرجع إلى الصواب، لكن عقلي كان مستقراً بحيث أني اعتبرها جاهلة ومسكينة و لا تفهم الدين. مرت الأيام ثقيلة علي في القرية وشوقي متعلق بالعودة إلى الرياض؛ انتهت العطلة وودعت أمي وهي لا تزال تبكي وتتحسر على ابنها الوحيد الذي بدت ملامح التغير تفتك فيه؛ وسوف يرفض بعد سنة واحدة تقبيلها ولن يسمح لها بالخروج من المنزل ولا الرد على التلفون وسوف يحطم التلفزيون القديم الذي أهداه لها أخوها!
حصلت أحداث كثيرة في التيرم الثاني، فقد تعرفت على شخص اسمه عبدالعزيز، وهو شخص قوي الشخصية يعمل في عمادة القبول والتسجيل وينظم الطلاب عند التسجيل، وله يد طولى في تسجيل الساعات المناسبة لمن يريد. كان سبب التعرف هو أني كنت خارجا من المكتبة المركزية ذات يوم فإذا هناك تجمع لبعض الطلاب المطاوعة في البوفية في البهو الرئيسي, وكان عبدالعزيز هذا هو الذي يسيطر على الجو، ووجدت صديقي من بينهم سلمت عليه ووقفت استمع، فإذا هم يخططون لتكسير مسجد في الدور الرابع في البهو لأن الشيعة يصلون فيه. سألت صديقي: ومن هم الشيعة بالضبط لأني كنت أسمع بهم ولكني لم أعرفهم جيداً. قال أهل الشرقية. بالتأكيد ذهبنا إلى الدور الرابع وكسرنا الصناديق وطوينا السجادات وحملناها في سيارة عبدالعزيز الذي سيحرقها بطريقته. واتفقنا غداً أن نذهب إلى مكتب عميد القبول عبدالله الحمدان لنبلغه هذا المنكر ونرفض السماح للشيعة بأن يكون لهم مصلى خاص بهم
من الغد اجتمعنا في البهو الرئيسي بعد صلاة الظهر وتقدمنا عبدالعزيز إلى مكتب عميد القبول والتسجيل آنذاك د.عبدالله الحمدان. انتظرنا عند السكرتير طويلا حتى ظهر سكرتير آخر من مكتب الحمدان يخبرنا بأنه لن يدخل على العميد سوى ثلاثة شريطة أن يكتبوا ما يريدون في ورقة. بالطبع قرر عبدالعزيز الدخول مع اثنين وكتبوا على عجل خطاب يطالب بإيقاف إهانة الإسلام في الجامعة مثل إغلاق مصلى الشيعة ومنع الموسيقى في المسرح وإلغاء أجراس تحديد المحاضرات وتحديد زمن لدخول الطلاب للسكن لا يتجاوز الساعة 12 ليلاً. دخلوا بها ولم يلبثوا طويلا حتى خرجوا علينا يقولون بأنه وعدهم بعرض الموضوع على مدير الجامعة التركي. وبعد فترة طويلة منع الشيعة من الصلاة وألغيت الموسيقى من المسرح وتعطلت الأجراس فترة ثم عادت؛ كما إن تحديد مواعيد دخول طلاب السكن قد تأخر كثيراً ولم يحصل إلا بعد فترة طويلة قابله الطلاب بالمظاهرات وألغي القرار بعد تدخل الشرطة وقوات الأمن لقمع المظاهرة واعتقال المشاركين فيها
كان هناك في قسم المناهج وطرق التدريس بكلية التربية دكتور لا أعرفه اسمه عثمان البريكان؛ كان يجمع الطلاب في مكتبه أو في مصلى القسم ويؤلبهم ضد الشيعة. وقد أوصى الطلاب بعدم حضور محاضرة دكتور شيعي وأنه سوف يتكفل بالدرجات شخصيا لأن له حضوة عند عميد الكلية أحمد التويجري؛ الذي ألقى فيما بعد محاضرة قوية ضد الشيعة تدخلت الشرطة بعد ذلك لأخذه والتحقيق معه. وكانت من نتائج تأليب البريكان أن قام طالب بكلية الطب بإيقاف الدكتور محمد رضا الشخص من قسم اللغة العربية يقال بأنه شيعي؛ أوقفه في مواقف السيارات خارج الكلية وأشبعه ضرباً وفك حنكه العلوي ثم فر هارباً إلى قريته في القصيم ولم يعد إلى الجامعة فيما بعد رغم أن الدكتور سامحه وتنازل عن حقوقه الشخصية، وسمعنا أنه التحق بأفغانستان بعد فترة طويلة.
2 -
مضت فترة وأنا مواظب على حضور الدروس التي تعقد في جامع الملك خالد بأم الحمام ومن هناك تعرفت على عدد من الشباب والذين يطلقون على أنفسهم مُسمى شباب الصحوة. في تلك الأثناء حصلت حرب الخليج وبدأ الأمريكان يفدون إلى السعودية ولم يكن في ذهني أي شيء ضدهم حتى استمعت إلى محاضرة قوية لسلمان العودة عن اليهود والنصارى ومن بعدها تأثرنا بتلك المحاضرة و ما تبعها من محاضرات للعمر و للطريري وللحوالي وغيرهم؛ وقد بقيت تلك مجرد أفكار عابرة ولكن الذي أججها مظاهرة النساء لقيادة السيارة فقد ألقى الكلباني خطيب جامع الملك خالد آنذاك خطبة طالب فيها الملك فهد بقطع روؤس هؤلاء النسوة لاجتثاث الفساد استناداً إلى أن النبي موسى قد قتل الغلام خشية من فتنته حينما يكبر! ثم استضاف الشيخ عائض القرني الذي كرر نفس مطالب الكلباني في محاضرة حاشدة.
حثنا الشيخ الكلباني والطريري وفيما بعد سعد البريك و سليمان الخراشي على توزيع مصورات كتبوها بأسماء اللاتي شاركن في المظاهرة وأسماء وظائفهن وأزواجهن وتوزيعها في المحلات وفي المدارس وعند الإشارات.. كنا في حماس منقطع النظير ونحن نقوم بذلك. كنت لا أعود إلى البيت إلا بعد منتصف الليل، العمل والحماس يحدوني لكي أبقى أوزع المنشورات؛ والتي بدأت تزداد حينما كتب عائض القرني فيما بعد ما سماه "في عين العاصفة" ردا على زاوية غازي القصيبي التي كان ينشرها في الشرق الأوسط واتهمه فيها بالعلمانية؛ وكانت هذه المرة الأولى التي أسمع هذه الكلمة.
فيما بعد دار خصام شديد بين أخوين كنا في منزلهم لتناول العشاء؛ فقد كان الأخ الأكبر معجباً بالقصيبي ولكن أخاه الأصغر يؤكد بأنه علماني خبيث؛ زادت المشادة لأننا وقفنا كلنا ضد القصيبي حتى أنني وثلاثة من المعزومين خرجنا تلك الليلة دون تناول العشاء من باب أننا لا يمكن الجلوس في منزل يقال فيه منكر!
فيما بعد أتيحت لي فرصة لقراءة كتاب القصيبي الذي وزع سرا وكان بعنوان " حتى لا تكون فتنة" ووضع الإهداء فيه إلى الشيخ ابن باز ، و القاريء للكتاب يلمح وكأن الكتاب موجه إلى الملك فهد. ولكن هذه الفرصة لم تتح لي إلا بعد أكثر من عام على حادثة العشاء التي ذكرتها. وخلال هذه الفترة جرت عدة تغييرات على فكري ولا أنكر أن كتاب القصيبي نفسه لعب دوراً مهماً في إعمال عقلي لكي أعرفه ومن خلاله عرفت فكر من أعيش معهم
التحقت بجوالة الجامعة، بعد أن وصلت سمعتها ونشاطها إلى أكثر الطلاب داخل الجامعة وخارجها. كانت الجوالة تأخذ ميزانية ضخمة من الجامعة ولها مخيمات خارج الرياض وفي بعض المدن كالطائف وأبها. لم أكن أُحسن التمثيل ولكن ليس التمثيل وحده هو الذي تقوم به الجوالة؛ الناس يعرفون التمثيل أكثر لأن الجوالة تعمل حفلات كثيرة في مسرح الجامعة وتقدم عروضا مسرحية للجمهور؛ وكانت تلك المسرحيات تقوم على فكرة إسلامية تتعلق إما بالجهاد ضد الدشوش التي انتشرت في تلك الفترة، أو بالكشف عن الأفكار العلمانية في الجامعة ومطالبة الجامعة بالتدخل؛ وبعض تلك المسرحيات تصور مجتمعنا بأنه مجتمع جاهلي لا فرق بينه وبين العصر الجاهلي سوى هذه الآلات المستخدمة ولكنه من حيث التدين جاهلي. وهذه الأفكار منتشرة بقوة لدى الجوالة وأعضائها وفيما بعد في مكتبات المساجد التي اشتركت فيها؛ حتى أنني كنت حينما أسافر لزيارة أمي أظل أفكر بأنني شخص مختلف عن هذا المجتمع وأتعاطف مع أمي المسكينة بأنها جاهلية في عقيدتها وحاولت أصحح لها طريقة السجود وطريقة الجلوس بين السجدتين فهي لا تجلس بينهما الجلسة الصحيحة ولكنها لم تأبه بكلامي.
كنت مؤمناً بقوة بأنني شخص أنتمي إلى مجتمع آخر ليس هذا المجتمع بكل تأكيد، كنت أحلم بدولة إسلامية تقام فيها الخلافة الإسلامية كما كانت في عهد الرسول والخلفاء الراشدين؛ وكنت أمنّي نفسي بخيالات أرى فيها زوال هذا المجتمع بحكومته وناسه الراضين بهذه الجاهلية. يظهر لي الآن وأنا أتذكر حالي أن هذه الأفكار قد تسربت إلي بعد قراءة كتب سيد قطب كمعالم على الطريق وغيره والإدمان على كاسيتات سلمان العودة وناصر العمر و الطريري. لقد كنا نتصور أن وجودنا مؤقت وأن الأمور سوف تتبدل بلا شك، ولو أن حكومة طالبان ظهرت في ذلك الوقت لهاجرت إليها بلا تردد؛ فقد كانت تمثل لنا الأنموذج الكامل للدولة الإسلامية.
ومن المواقف لتي لا تُنسى هي أننا قمنا بحملة ضد العلمانيين في الجامعة من الدكاترة، وكنا نتزود بأسمائهم كل يوم والقائمة تطول ولكن من أشهر من كان عليها: د/سعد البازعي من قسم اللغة الانجليزية، ود/عبدالله المعيقل من قسم اللغة العربية، و محمد العثيم من قسم الإعلام، ود/أحمد العويس ود/عبدالله الجريان من قسم الكيمياء، ود/عبدالله الغذامي من اللغة العربية، ود/ محمد أل زلفة من التاريخ ود/ سعد الصويان من علم الاجتماع ود/ علي الدغيمان السرباتي ود/محمد قلعة جي من قسم الدراسات الاسلامية، ود/ عبدالرحمن الأنصاري من قسم الآثار؛ وغيرهم.
كان هناك عدد من الطلاب يحضرون هذه المحاضرات ومعهم مسجلات صغيرة يسجلونها، وهناك مدرسون متدينون يحضرون لحضور محاضرات هؤلاء؛ لأن نظام المحاضرة كان مفتوحاً للجميع. و كنا نقوم بكتابة شكوى إلى مدير الجامعة وإلى الشيخ ابن باز ضد هؤلاء لأنهم يعلمون الطلاب الفكر العلماني؛ وكان هناك البعض يقترح ضربهم بعد الدوام، وبالفعل تم ضرب أستاذ مصري في قسم اللغة العربية وأحرقت سيارته. وعلمت فيما بعد أن الدكتور الجريان قد اختفى عن أهله من سنوات و لا أحد يعلم عن مصيره شيئا و لا أدري فإنني أرجح أن أحداً قد خطفه ثم قتله في جبال طويق، فهو يُصرّ على الحديث عن نظرية التطور؛ وكان مدرس في ثانوية النجاشي (ابن باز لاحقا) ثم صار مدير ثانوية فيما بعد يُسمى إبراهيم الربيعة كان يحضر له وقد هدد الدكتور بالقتل. و لا أدري الآن هل عثر على الدكتور الجريان أم أنه ظل مجهول المصير؟ وهناك دكاترة آخرين قد غيروا من نهجهم وصاروا مع المتدينيين كالبازعي والصويان وال زلفة و السرباتي كما طرد آخرين كقلعة جي
3-
من خلال الجوالة تعرفت على عدد من المدرسين في المدارس المتوسطة والثانوية الذين يحضرون للمشاركة معنا وجلب طلابهم إلى المخيم للالتقاء بالعلماء من مثل: القرني و الطريري و العشماوي وآخرين. ومن خلال هؤلاء المدرسين دعوني لأكون ضيفا في حلقاتهم المدرسية التي تعقد في المدرسة بعد الدوام. كانت تجربة ثرية لي حينما حضرت إلى ثانوية الملك فهد بحي الروضة لأكون ضيفاً عند مدرس الدين الشيخ وليد، وكان البرنامج عبارة عن قراءة للقرآن ثم تفسير له من قبل المدرس، بعد ذلك يقوم الطلاب بلعب الكرة ثم يعودون لصلاة المغرب، وبعد الصلاة نستمع إلى محاضرة عن طريق الكاسيت ويدور بعدها نقاش حتى صلاة العشاء ثم يأتي دوري لمحاضر أتكلم بموضوع معين حتى يأتي العشاء؛ وكان موضوعي الذي أعددته عن "تحية الإسلام" وبينت من خلال محاضرتي أن استخدام أي عبارة أخرى مخالف للمنهج الإسلامي لأننا ينبغي أن نعيش كالصحابة والتابعين ونسلم على كل أحد حتى لو لم يرد فقد كسبنا الأجر، ثم يجب الرد بالسلام على من ألقى تحية غير إسلامية لتعليمه بخطئه الشرعي. وأذكر أن الطلاب ذكروا أسماء معلمين لا يسلّمون عليهم فطلبنا منهم أن ينبهوهم لذلك عن طريق قول "وعليكم السلام" لكي يشعر المعلم بخطئه فإن أبى فلا بد من الإنكار عليه. وبعد العشاء تفرق الطلاب.
كانت هذه التجربة مُحببة لي لهذا استجبت لدعوة مدرسين آخرين في متوسطة ابن الجوزي بالروضة ومتوسطة فيصل بن تركي بحي الملك فهد ومتوسطة العليا ومتوسطة ابن القيم وثانوية القادسية وغيرهن
في متوسطة فيصل بن تركي كانت التجربة قوية إذ أن لمدرس الدين صالح القاضي حضوة قوية في المدرسة فالمدير وبقية المدرسين يخشونه خشية كبيرة ويطيعون كل أوامره، وله غرفة خاصة يسميها غرفة الجماعة الإسلامية، يلقى فيها دروس الدين؛ فهو يرى أن قراءة القرآن في الفصل لا تعطيه الوقار اللائق به لهذا فالطلاب ينزلون الى حجرته في حصص القرآن ليجلسوا بطريقة معينة تشبه طريقة الأوائل؛ وهناك استريو كبير يسمع فيه الطلاب القرآن والمواعظ.
وكانت هذه الغرفة مكاناً يجلس فيه بعض الطلاب بعد الدوام وتعقد فيها لقاءات بعد الدوام واستمرت هذه الحجرة مكانا سريا لا يسمح بدخوله إلا عن طريق المدرس صالح القاضي حتى حصلت فضيحة استدعت تدخل الشرطة. والقصة بدأت حينما فُقد الاستريو من الغرفة وقام صالح القاضي باتهام مدير المدرسة بأخذ الاستريو ولكن المدير رفض ذلك واتصل على الشرطة الذين حضروا أثناء الدوام ولكنهم لم يجدوا النافذة و لا الباب مكسوراً، مما رجح أن الفاعل هو ممن يملكون مفتاحاً للغرفة. وبعد حصر الذين معهم مفتاح للغرفة وكان من بينهم طالب جامعي يحضر للمدرسة -بسبب علاقته بالأنشطة بعد الدوام- ويعتقد أنه متدرب يدعى عائض وطالب في ثالث متوسط يدعى الخميس؛ واعترف الخميس أنه أعطى نسخة من المفتاح لطالب سوري آخر. وبعد التحقيق اتضح أن عائض قد دخل ذات مرة بعد العصر ووجد الطالبين يمارسان الفاحشة في الغرفة وقد أغلقا على أنفسهما الباب؛ واشترط لكي لا يفضحهما أن يمكناه من نفسيهما؛ وهذا الشخص هو الآن محاضر في قسم الدراسات الإسلامية بإحدى الجامعات وله فتاوي ومقالات دينية. الطالب السوري طلب من أحد رفاقه السوريين مساعدته في حمل الاستريو ذات يوم بعد الدوام لأنهم يستطيعون فتح باب المدرسة الخارجي ثم الدخول إلى الغرفة؛ وقد اعترف الطالب السوري بذلك بسهولة. و انتقل الموضوع إلى إدارة التعليم التي ترفض وجود غرفة مخصصة بهذا الشكل ونقلوا مدير المتوسطة وصالح القاضي إلى مدارس أخرى تأديباً لهما.
من خلال المخيمات في الثمامة تعرفت عن قرب على سليمان الخراشي؛ فقد صار قائداً، ويسمونه "أمير" وألقى عدة محاضرات، وأتذكر أنني تحمست في إحدى جلساته وكنت أتساءل بحرقة عن سبب دعم الحكومة للعلمانيين كما يقول المحاضر، وكان يرد علي بابتسامة ويقول بأن الفرج قريب بمشيئة الله.
ويبدو أن حماسي قد أعجبه أو أن سذاجتي وبساطة منطقي قد لاقى استحساناً منه، فسلم علي وسألني عن اسمي وعائلتي وبلدتي وبارك لي الانضمام لشباب الصحوة المبارك. فيما بعد اقترح علي أن أنضم إلى إحدى المكتبات في المساجد. ومضت مدة طويلة لم أره فيها ولا أعرف عنه معلومات كثيرة فأنا بطبعي خجول ولا أتجرأ على الأسئلة الشخصية. وخلال هذه المدة صرت عضواً في مكتبة مسجد الشيخ الطريري ثم صرت مشرفاً على مكتبة مسجد بحي النخيل؛ وسكان الحي من الأثرياء وكان عدد الطلاب لا يتجاوز السبعة. لم أكن أعلم بأنني تابع للشيخ سليمان الخراشي فقد كانت تصلني المنشورات والكتيبات من خلال اجتماعنا في مسجد الكلباني كل ثلاثاء؛ فهناك مكتبة كبيرة نلتقي فيها ونعرف البرنامج المطلوب تنفيذه للأسبوع القادم. وهناك مجموعة منشورات وكتيبات مصفوفة نأخذ منها على عدد طلابنا، وهناك شخص سوري يتكلم بلهجة حجازية وهو نائب الكلباني في الصلاة هو الذي يملي علينا خطة الأسبوع.
كان علي أن أطلع على المنشورات والكتيبات قبل توزيعها كل أربعاء على الطلاب؛ وكانت ملخصات لكتب سيد قطب وبعضها نقولات من الكوثري، ومن محمد بن سرور ومن المودودي والترابي، وكتيبات الطريري والعمر والعودة و الحوالي و عبدالرحمن عبدالخالق و عبدالفتاح أبوغدة، وقصائد للعشماوي وللقرني وأتذكر من تلك الكتب:[ كتب وشخصيات، وقفات تربوية، السنة النبوية، سر تأخر العرب والمسلمين، قل هذه سبيلي، مذكرات الدعوة والدعية، الأخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، شهيد المحراب، خطوط رئيسية لبعث الأمة الإسلامية، صناعة الحياة، تربيتهم الروحية، فقه الواقع، وغيرها].
وأذكر أني اجتهدت مرة واقترحت كتاب القرضاوي عن العبادة في الإسلام ولاحظت أن وجيههم قد تجهمت وقيل لي بأنه لا يصلح. وفيما بعد عرفت أن المادة التي نعطيها للطلاب في المكتبات هي مادة منتقاة ذات طابع يحث على العنف والتمرد على الدولة وفي الوقت نفسه يغرس فكرة طاعة الأمير أو الشيخ والرجوع إليه في كل أمر. وهو ما لاحظته فعلاً كسمة واضحة لدى طلاب المراكز والمخيمات وكيف أن الطالب يأتي ويجلس أمام شيخه بطريقة توحي بالوقار والتعظيم ويستشير الشيخ في موضوع يخص أسرته وبمجرد نطق الشيخ بالرأي حتى يصبح حكماً نهائياً يطيعه الطالب ولا يناقشه فيه. قال لي طالب أن لديه مشكلة مع أمير الجماعة وطلب مني التوسط له، وكانت المشكلة أن المدرس /الأمير قد غضب على الطالب لأنه لم يستشره حينما سافر مع أهله للشرقية الأسبوع الماضي، وذهبت بسذاجة للتوسط ولكني فوجئت بتجهم المدرس وهو يقول لي: أنا أبخص ولو سمحت لا تتدخل في هالأمور. فيما بعد علمت أن هذه سياسة يقوم بها الأمير لإجبار أتباعه على طاعته العمياء والكشف عن أي تصرف يقومون به وأخذ رأي الأمير في ذلك
4-
ظللت مستمتعاً بالمكتبات وحضور الندوات وانقطعت نهائياً عن الذهاب إلى الجامعة ولم أحضر أي مادة مما جعلهم يطردونني من السكن وطوي قيدي في نهاية العام، فلما علم سليمان الخراشي بذلك قال: هذا خير لك وعينني مؤذنا في مسجد بحي الخليج فيه سكن مجاني. للشيخ سليمان "أبو صهيب" واسطة لا يمكن تصديقها فهو قادر على تدبير أمر أي شخص إذا أراد؛ ويقول عنه الشباب بأن الله حباه محبته وسخر له القوم. كان يُدفع لي ألفان ريال شهريا، وكنت أصرفها على الأكل وشراء الكاسيتات.
قيل لي في أحد لقاءاتنا يوم الثلاثاء في مسجد الملك خالد بأم الحمام بأن الشيخ سليمان يسأل عني. وعلي أن أذهب لمقابلته في مخيم قريب. ذهبت مع أحدهم ووصلنا إلى استراحة صغيرة يٌقال بأنها لإبراهيم الحديثي؛ فإذا الشيخ سليمان هناك، قدم لي تمر وقهوة وذهب الذي أوصلني وقال بأنه سيعود بعد ساعة. قال لي سليمان: هل تعرف الخبيث عبدالعزيز العسكر؟ قلت لا. ثم راح يشرح لي أنه دكتور في جامعة الإمام وأنه ضد المتدينين وضد نظام المكتبات وأنه مقرب من الشيخ ابن باز وهذه مصيبة لأن ابن باز قد ينقل أفكاره للحكومة، ثم قال نريد التخلص منه لأنه عدو الصحوة المباركة، هو و عبدالله العبيلان في حائل، لكن هذا في الدرعية قريب. أعداء الصحوة المباركة؛ كرر هذه الجملة عدة مرات. ثم طلب مني طلباُ لا أستطيع الإفصاح عنه هنا مادام أنه لم ينفذ.. دخلني الرعب فقلت: ما أعرف؟ قال: لا عليك بكره جواز سفرك يكون جاهز و رايح يطلع أحد الإخوة على بيته في الدرعية؛ ويكفي أن تراقبه يوم أو يومين لتعرف وقت خروجه لصلاة الفجر؛ وبمجرد ما تنفذ الأمر تتوجه بسيارة خاصة راح نعطيك إياها إلى صلبوخ وهناك شخص يأخذك ويوصلك المطار لتتجه إلى السودان والأخوان هناك مجهزين وضعك، وهذي ستة ألاف لك، ووضع حزمة الفلوس أمامي ثم أخذها. وأضاف كل شيء جاهز و ما عليك إلا أروح معك للبر بكره أو بعده لكي تزول رهبة ذلك الشيء من نفسك. لم يعطيني أي فرصة للرد أو الاعتذار أو الاستفسار، كان يقرر، كان يملي علي ما يجب علي عمله وكفى. ونبهني بأنني تابع له وهو أميري ويجب علي تنفيذ أمره وذكر لي آية التولي يوم الزحف.
وفي هذه اللحظات جاء الشخص الذي أوصلني فقلت له: ما ودك نمشي تأخرنا، فقال هيا، كنت أريد التخلص من هذا المأزق؛ فسلمت على سليمان الذي قبض على يدي وقال: ترانا على وعدنا وجعل يدي تلمس جيبه التي فيها الفلوس؛ وخرجت من تلك الاستراحة وقلبي يرتجف. وفيما بعد علمت أن هناك من حاول الاعتداء على الشيخ العبيلان في مدينة حائل أثناء خروجه لصلاة الفجر وقد اُعتقل المُنفذ وسلِم الشيخ!
لم أنم تلك الليلة والليالي التي عقبتها من الخوف والوجل والشعور بالورطة وعينا سليمان اللتان تقدحان الشرر ترافقان كل لحظاتي؛ حتى وأنا أكتب الآن عن هذا الموضوع الذي مضى عليه ما يقرب من العشر سنوات إلا أن صورة عينية الحادة ظلت من الأشياء العالقة في ذاكرتي والتي تُرعبني. يوم الثلاثاء القادم التقيت بسليمان في جامع الملك خالد وأخبرته برفضي لتنفيذ فكرته؛ فرد علي مبتسماً تلك الابتسامة المصطنعة: والله إنك قروي صحيح و إنت صدقت مزحي معك؟ كنت أبغى أجسك هل إنت ذيب وإلا سبع، وطلعتَ سبع الذيب!!
لم يُخفف قوله هذا من قلقي النفسي ولكنه قدم لي حلا كنت أبحث عنه في تلك اللحظة؛ وقلت له بأنه يجب عليّ أن أنتهي من حفظ القرآن الكريم فلم يبق علي سوى ثمانية أجزاء. لقد سخّرت وقتي مابين المكتبة ومابين حفظ كتاب الله؛ وكان تقدّمي في حفظ القرآن يُعطيني دفعة عاطفية قوية لا أشعر معها أنني فشلت في دراستي في الجامعة
بدأ إمام المسجد يتضايق من عدم تواجدي للآذان ويُلمّح لي كلما رآني بأن المصلين يسألون عني؛ أخبرته بانشغالي بطلب العلم في المساجد ومع المشائخ لكنه لم يقتنع بذلك وظل يكرر سؤاله كلما رآني. كنت أعيش ضائقة مالية وكنت أخجل أن أطلب من أحد مالاً؛ ولكني علمت أن مشرفي الجماعات الإسلامية يستلمون أموالاً ضخمة من مصادر مختلفة؛ و ما علمت بذلك إلا حينما انتشر خبر شيك المدرس "البسام" وهو مدرس في متوسطة حي السفارات في شمال الرياض وزعيم تنظيمي للجماعات خارج المدرسة. كان يُصرف له شيكات من الراجحي ومن العثيم ومن الفوزان ومن شركات أخرى، وتكتفي الغالب باسمه وأحياناً باسم المدرسة؛ وحينما يكتب الشيك باسم المدرسة فإنه يحتاج إلى تجيير هذا الشيك لاسمه وهذا يتطلب توقيع المدير أو الوكيل وختم المدرسة. كان وكيل المدرسة سلطان الثنيان متديناً وكان يكتب له على ظهر الشيك تجيير من المدرسة لاسمه ويختمها بختم المدرسة الرسمي ولا يواجه البسام أي مشكلة في ذلك مع البنك. وسلطان الثنيان هو ابن أخ عبدالعزيز الثنيان مدير تعليم الرياض ثم وكيل وزارة المعارف سابقاً، وكان عمه يقدم الدعم الكامل للأنشطة الدينية ويرعاها منذ أن كان مديرا ً للتعليم في الرياض حيث اتفق مع عبدالله الخلف مدير الشؤون التعليمية أن يضعوا جميع مدراء المدارس من المتدينين؛ ويقال بأن المدارس خلال أربع سنوات قد تحولت بشكل جذري ليكون جميع مدراؤها إلا فيما ندر هم من المتدينيين ذوي اللحى. ولم يواجه البسام أي مشكلة في ظل دعم الثنيان له ولنشاطه. ولكن سلطان الثنيان غاب عن المدرسة فترة فذهب البسام بشيك بمبلغ خمسين ألف ريال حصل عليه من الراجحي يطلب من المدير الخريصي تجييره له فرفض المدير إلا أن يدفع نصف المبلغ لنشاطات المدرسة ودار بينهما خصام جعل القصة تظهر ويسمع به الكثيرون من أعضاء المخيمات.
حينما علمت بأن لديهم مالا ينفقونه على المخيمات ويساعدون من يريد الزواج ويدفعون هدايا للطلاب ورحلات أسبوعية أما لمكة والمدينة أو للشرقية وغير ذلك. صرحت بحاجتي للمال لكن الذين قلت لهم كانوا يرددون علي عبارة: الله يعين؛ وكأني شعرت بأنه ليس بيدهم حيلة وأنه يتحتم علي أن أقول ذلك للأمراء كالخراشي أو البسام أو عبدالله الدريهم أو العقيل أو الربيعة مثلا؛ لكنني لم أستطع فعل ذلك. ولضيق الحال بي كنت أذهب إلى مطعم الجامعة بعد انصراف الطلاب وآخذ البقايا التي يتركونها في الصحون وآكل منها؛ استمريت على هذه الحال فترة ثم قررت أن أبيع سيارتي الدادسون التي اشتراها لي خالي هبة منه، وفعلا بعتها بأربعة آلاف ومائتين ريال، وأنا أعلم أن خالي اشتراها لي باثناعشر ألف ريال قبل سنتين وذلك معونة منه لنا. كنت مضطراً لبيع السيارة فلم يعد لدي مال آكل منه و لا أقدر على الذهاب إلى مطعم الجامعة كل يوم بعد أن فُصلت من الجامعة
-5-
قابلني الشيخ العسكر إمام المسجد الذي أشرف فيه على المكتبة وكان ضخم الجسم يعمل محاضراً في جامعة الإمام؛ وقال لي بلا مقدمات: لماذا لم تنبه الطلاب إلى الأخطاء العقيدة فيما يقدمونه من نصوص؟ قلت: طبعاً أبين لهم ذلك. قال: ما رأيك إذن بقصيدة أبو القاسم الشابي التي قرأها طالب ولم تنبه إلى فساد معتقدها؟ وتذكرت أن طالباً طلب مني أن يقرأ قصيدة أحضرها معه لكي يتدرب على الإلقاء؛ فقرأ قصيدة أبي القاسم الشابي التي مطلعها:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة *** فلابد أن يستجيب القدر
قلت للعسكر: لا أذكر أن فيها خللا عقدياً. قال: أعوذ بالله كيف غاب عن عينك الكفريات فيها، وذكر أن قوله "يستجيب القدر" كفر بواح لأن الله هو الذي يستجيب وليس القدر. قلت ببراءة: لكني لا أعتقد أنه يقصد أن الله مُستبعد من القدرة، والقدر يشبه قولنا الصدفة والحظ، كما تقول: الصدفة هي التي خلتني أشوفك. وهذا لا يعني سلب القدرة من الله. فغضب من ردي وبدأ بعصبية وهو يقول: لا, لا، إنت تحتاج قراءة العقيدة الطحاوية، وقراءة فكر العلمانية الفاسد؛ هؤلاء مفسدون ويريدون إفساد أبنائنا.
بعد أسبوع على هذه الحادثة قيل لي بأن هناك شخصاً آخر سيكون مشرفاً على المكتبة. وعلمت فيما بعد بأن العسكر هو المسؤول عن عدد من المكتبات منها هذه المكتبة وأنه يتجسس على المشرفين ليعلم عن مدى تنفيذهم للخطة الموضوعة. وربما يكون هو الذي أوصى بفصلي لأن ما فعله الطالب ربما كان اختباراً لي ولمدى التزامي بالخطة المعطاة لي وعدم خروجي عنها؛ وقد فشلت في نظره لأني سمحت للطالب بقراءة نص غير مقرر في الخطة ثم عدم تنبيهي على ما فيه من خلل عقدي بحسب فهمه. وهذه المآخذ بحد ذاتها تعتبر كبيرة لديهم، وأظنهم لم يكتشفوا عدم حرفيتي في تطبيق الخطة إلا مؤخراً.
الحقيقة أنني غضبت من فضاضته وذهبت يوم الثلاثاء إلى جامع الملك خالد وسألت عن سبب استبعادي فقيل لي: لا تستعجل يا أبو أديب، وهو كنية فضلتها على أبو مصعب الذي يحبون مناداتي به. قالوا لي لا تستعجل فلربما هناك مهمة أكبر من الإشراف تنتظرك، وصاروا يمزحون: الله لنا رايح تصير أمير علينا..
في تلك الليلة بدأت الأفكار تلعب في مخيلتي، وبدأ سؤال لحوح يعتصرني: لماذا اختارني الشيخ سليمان لمهمته التي صرح لي بها في الاستراحة؟ لماذا أنا بالذات؟ وهل يعرفني جيداً لدرجة أن يُخبرني بسر خطير وعمل أخطر؟ أنا لا أعرف سليمان هذا كثيراً سوى أنه أمير لجماعات النشاط المدرسي؛ وتساءلت: هل رفضي لفكرته سوف يغضبه؟ وهل له علاقة بطردي من المكتبة علماً بأن هناك مشرفين على المكتبات من الصغار وممن عليهم ملاحظات وشكاوي في علاقتهم مع الطلاب ولكنهم باقون؟ لم أجد حلاً، قمت وتوضأت وجلست أقرأ القرآن بصوت مرتفع؛ لقد بقي علي آخر ثلاثة أجزاء من المنتصف لكي أنتهي من حفظ القرآن، انشغل ذهني بإنجاز حفظ ما تبقى من القرآن. كانت حافظتي مجنونة وقوية وخلال أسبوعين كنت قد انتهيت من حفظ ما تبقى من القرآن كله. ثم عادت إلى ذهني الأسئلة المحيرة كل ليلة؛ نهاري مشغول بمتابعة الدروس في المساجد وليلي مشغول بتساؤلاتي المحيرة؛ صحيح أن هناك فراغاً وجدته حيث لم أعد أشرف على المكتبة ولم أعد أكرر حفظ القرآن ولكني كنت أقضي وقتاً طويلاً في إصلاح وتصوير المنشورات على حسابي. وفي درس بلوغ المرام في مسجد سعد البريك قال لي عادل العبدالجبار وهو أحد مشرفي المكتبات بأنه يريدني أن أساعده في جمع مقالات محمد رضا نصر الله وكشف الخلل العقدي فيها. وذهبت معه إلى سيارته فإذا ملف مليء بقصاصات من المقالات له و لعبدالله الزيد ومحمد الثبيتي و الصيخان و الغذامي وعدد آخر من الكتاب الصحفيين. وأخبرني بأن المطلوب أن نحدد الخلل العقدي في كل مقالة لكي يعرض على الشيخ ابن باز من أجل أن يصدر فتوى تكفير في هؤلاء على نفس طريقة عوض القرني في كتابه الحداثة في ميزان الإسلام. جلست معه في السيارة حوالي ساعتين ولكني لم أتحمس للعمل ولم أفهم قصده جيداً فأعطاني مجموعة منشورات ضد السياحة في الخارج وضد الحداثيين لكي أوزعها على طريقي في المساجد والمستشفيات؛ وفعلا قمت بالمرور على عدد من المساجد وكنت أعطي الإمام أو المؤذن لكي يقوم بنشرها بدوره إما في المدارس أو في صالونات الأفراح وغيرها من أماكن التجمعات.
استمريت في الذهاب يوم الثلاثاء إلى أم الحمام وطلبوا مني أن أقوم بجمع التبرعات عند باب الجامع بأكياس أو بعلب مغلقة يستلمها سليمان الخراشي لكي ينفق منها على المراكز والمكتبات وإن كنا نعلن للناس بأنها للجهاد وللفقراء، لكني لم أكن مهتماً بهذا الأمر في ذلك الوقت إذ لا أهمية عندي لذلك فمادامت بيد الأمير فله الحق أن يصرفها كيفما شاء. وذات يوم طلبني سليمان وسألني كم جمعت اليوم؟ قلت لا أدري فلم أتعود أن أعد المبلغ وإنما كنت أسلمه مباشرة. قال وعيناه تشككان في كلامي: المبلغ اليوم مأخوذ منه، غضبت لأني شعرت أنه يتهمني فقلت: والله لا أعرف عنه شيئاً، ورغم حاجتي فإني لم ألمس ريالا واحداً، أتعشى من فضلات طلاب الجامعة ولم أمد يدي لريال. لم يرد علي ولكن عيناه ظلتا تحدقان بي حتى خرجت.
حينما عدت للبيت بدأ الغضب يفور في رأسي، وندمت أنني لم أشتمه؛ وأحسست بمهانة كبيرة أن يصل به الأمر لأن يشك في أمانتي وأنا الحافظ للقرآن الصادق في عملي المخلص لهم.. لقد غلى الدم في عروقي وخرجت من البيت وأنا أرسم في رأسي كلاماً قوياً ألقنه إياه من الغد، ولكن غضبي انطفأ بعد فترة ولم أفاتحه بكلام منذ ذلك الوقت..
هناك شيء مزعج بدأ يدور في ذهني، إنه هاجس مقلق ينتابني طوال هذه الفترة، يذهب مع الانشغال ثم يأتي، حتى إني ذات ليلة صحوت وسط النوم من حلم مرعب وخفت من فكرة قوية تسلطت علي وهي أن سليمان ربما ينتقم مني، ربما يريد التخلص مني كشاهد، ربما وربما.. وظل عقلي يدور وجلست أفكر بحياتي في الرياض وحياة أمي التي سكنت مع خوالي بعد سفري. لأول مرة منذ أن التحقت بالمطاوعة والأنشطة الدينية وجدت نفسي متعاطفاً مع أمي؛ فأحسست بذنب أنها تعتقد أنني سوف أتخرج هذه السنة وأعود إليها موظفاً ونسكن معاً بعيداً عن خالي وأسرته وتُمني نفسها كل يوم بعودتي إليها؛ وأنا في الحقيقة غارق في متاهة لا أعرف طرفها؛ لقد وجدت نفسي أقف أمام حقيقة ساطعة: لقد فشلت في دراستي وضيعت أموالي وسيارتي وجهدي وهاأنا لا أجد عشاء ولا عملاً ولا أمناً فالخوف من انتقام سليمان يتهدد حياتي كل لحظة.. أحسست بشيء لا أستطيع وصفه، ربما يكون نوعا من الندم، أتذكر أنني بكيت دون أن أشعر، ثم استمر البكاء معي طوال الليل. في الصباح تحول الخوف من سليمان من كونه فكرة ليكون حقيقة؛ المال الذي أخذته من قيمة السيارة تبدد في سيارات الأجرة وتصوير المنشورات ونسخ الكاسيتات ولم يتبقى معي سوى مبلغ زهيد، عددت ما تبقى معي فوجدته فقط سبعمائة وست وعشرين ريالاً. فكرت: وماذا سأفعل حينما تنتهي هذه السبعمائة؟
-6-
في حي أم الحمام كان هناك محل تسجيلات إسلامية مقابل لجامع الملك خالد على الشارع العام؛ وخلفه تقع صناعية أم الحمام لإصلاح السيارات. كنت أقضي فيه بعض الوقت من بعد انتهاء درس العقيدة بعد العصر وحتى غروب الشمس. ذات يوم رأيت ذلك الصديق الذي عرفني على المتدينين وكان سبباً في تعرفي على هذه الأنشطة. لقد غاب عن نظري منذ فترة أو أنني غبت عن نظره ولست أدري فقد انشغلت بأنشطة كثيرة هو غير مهتم بها؛ وكنت أعتقد بأن طموحه ضعيف. سلمنا على بعض بحرارة وقال لي إنه ينتظر إصلاح سيارته وهاله شكلي المتغير في لحيتي الطويلة وثوبي القصير ووجهي الشاحب. فجع عندما علم أني طردت من الجامعة، وغضب، وأخبرني بأنه ليس هناك مشكلة وأنني سأحصل على الشهادة هذا العام وأنه يعرف كيف يدبر الأمر. لم أتحمس لرأيه كثيراً، وحينما علم أني بعت سيارتي أخذني معه إلى بيتهم في حي السويدي وتعشينا مع بعض تلك الليلة وقابلت والده وإخوته كالعادة، وشعرت براحة كبيرة لم أشعر بها منذ زمن طويل. لقد شعرت بأنني بالغت في تعمقي في الدين؛ لكني في نفس الوقت أشعر بأفضليتي عليه لحفظي القرآن الكريم؛ وكان عنده كتب لابن تيمية فأهداني إياها وفرحت بذلك. في تلك الليلة قال لي هناك أكثر من شخص في جامعة الملك سعود سوف يدبرون أمر دراستي. وذكر لي اسم اثنين بارزين يساعدون شباب الصحوة في تنجيحهم وإعطائهم معدلات عالية. قال لي هناك الدكتور حزام ماطر المطيري من كلية العلوم الإدارية وهناك الدكتور محمد سليمان السديس من كلية الآداب؛ وهناك غيرهما؛ ولكن سوف نذهب لأقربهم. خرجنا من بيته وركبت معه ثم وصلنا إلى بيت الدكتور حزام المطيري، سلمنا عليه وأخبره صاحبي بقصتي فالتفت إلى صاحبي وقال: تزكيه؟، قال نعم، فابتسم وقال أمورك ميسرة حتى لو قيدك مطوي نعيده واعتبر كل المواد اللي فاتتك أنك ناجح فيها. اندهشت، ويبدو أنه لاحظ دهشتي، فقال: لكنها ليست مجانية، هناك عمل أصعب من الدراسة أنت مطالب بتنفيذه وهو عمل أفضل وتؤجر عليه؛ نحن نريدك أن تسجل لنا محاضرات بعض الأساتذة العلمانيين لكي نرتب شكاوي ضدهم إلى مدير الجامعة وتجمع تواقيع الطلاب ضدهم بطريقة رايح أعلمك لها بعدين. بقينا في الخارج ولم ندخل؛ ثم قال إنت مر عليّ بالمكتب كل فترة؛ وشهادة التخرج رايح تأخذها مع زملائك هالسنة بمشيئة الله لكن زي ما تعرف الأمور هذي سرية يمكن قال لك الأخ. وأضاف: بكره مر على الموثق أبو ياسر في العمادة- قسم الوثائق والسجلات وتلقاه مرتب كل شيء أنا رايح أرتب معه وضعك الليلة عطني رقمك الجامعي؟ أعطيته رقمي الجامعي واسمي كاملا ثم ودعناه وعدنا إلى بيت صديقي وسهرنا إلى الساعة الثانية عشرة تقريباً، ولما خرجت أصرّ صاحبي أن آخذ سيارة كابرس قديمة عندهم لكي أستخدمها حتى أشتري سيارة، فرفضت لكنه حلف علي فأخذتها وغادرت . إنني لا أزال أتذكر جيداً كيف تغير شعوري وأحسست براحة مع نفسي ومع من حولي؛ هذا الصديق رائع ونبيل ويحببني في الخير؛ لكن الآخرين لم يكونوا مثله!
ولست أدري كيف أنه كان غائباً عن ذهني وهو الذي عرفني على الكاسيتات وعلى المحاضرات الدينية في البداية؛ بالتأكيد ليس هو مسؤولاً عما جرى لي وليس هو السبب الوحيد في دخولي في هذه الجماعات الدينية والأنشطة لكنه كان فقط دليلاً؛ إذ يظهر أنه كان لدي القابلية للانخراط في هذه الجماعات إذ لم يكن لدي ميول معينة ولا اهتمامات قبل مجيئي إلى الرياض. قد يكون لانبهاري بالرياض باعتبارها مدينة ضخمة وسكانها مختلفون سبباً في انحسار شخصيتي السابقة واضمحلالها وبحثي عن شيء آخر. لا أزال أتذكر أنني أول ما جئت للرياض كنت أحمل شنطتي وملابسي على ظهري وأدخل فيها القاعات ولم أشعر بأي حرج، ولكني بعد سنتين أحسست بحرج من ذلك المنظر. إنني الآن وأنا أراقب شخصيتي بعد اندماجها في عالم أهل الرياض وقد تغيرت لكي تتنكر لذاتها من قبل، وأتذكر كيف أني أحتقر العيش الذي كنت أعيشه مع أمي ولهذا رفضت إحضارها للرياض بعد أن عرضت علي عدة مرات أن تأتي لتسكن معي في بيت المسجد. لقد تغيرت شخصيتي ليس فقط في النمط المتدين ولكن حتى في نظرتي لثقافتي ولهجتي وعاداتي السابقة؛ لقد صرت أتكلم لهجة أهل الرياض التي يكثر فيها استخدام ضمير (ذا) وفتح تاء التأنيث مثل (أنا جيتَ ورحتَ ودريتَ..) كما إن لغتي صارت تميل إلى الفصحى والتقعر أكثر مما كانت عليه في السابق. هذه ملاحظات أتذكرها وأعرف مقدار انسجامي مع صورتي الجديدة التي كانت تريد قطع صلتها بشخصيتي السابقة. ومن الأشياء التي لفتت انتباهي أول ما جئت للرياض هي أن نظام الاسم في الرياض مختلف عما هو عليه في قريتي؛ إنه أمر يتعلق بطريقة مناداة الناس لك. صحيح أنهم أعطوني كنية فيما بعد، ولكني -كما هو حال قريتي ومنطقتي- نُعرف أنفسنا من خلال الاسم الأول ثم اسم الأب؛ ونادراً ما نحتاج إلى اسم الجد أو العائلة والقبيلة؛ ربما فقط نستخدم هذه السلسة عند الإجراءات الرسمية؛ لكنها غير متداولة بين الناس نهائياً في حياتهم العامة ؛ لدرجة أنه من المستغرب أن يناديك شخص باسم قبيلتك أو عائلتك أو فخذك؛ بل يكتفون بالاسمين الأول والثاني. في الرياض الأمر مختلف؛ يستخدمون الاسم الأخير على أنه لقب؛ ينادونك به ويربطون الاسم الأول بالأخير دائماً؛ حتى ليصبح الشخص الواحد باسمين إذا كان قادما من قرية مثلي. حينما تعرفت على المطاوعة كنت حديث عهد ولم أختلط كثيراً بأهل الرياض واعرف نظام الاسم لديهم؛ فعرّفتُ نفسي على طريقتنا: الاسم الأول والثاني مع حرف ال طبعاً للأب. وصار هذا اسمي عندهم معتقدين فيما بعد أن اسم أبي هو اسم العائلة؛ وبعد استخدامي للكنية نادراً ما يناديني أحد باسمي إلا في حال الجامعة. ولم يقف الأمر على ذلك فقد كان التغيير في شخصيتي يتم عن تعمد وقصد، لدرجة أني كنت أحتقر أقاربي في قريتي حينما أزورهم في العيد أو الإجازة وهم يتكلمون كلاماً يخلو من روح الإسلام؛ فلقد صار كلامي كله مطعماً بعبارات دينية من مثل (جزاك الله خير) و(الله المستعان) و(ياسبحان الله) و(أستغفر الله) وغير ذلك من العبارات التي كنت أملأ بها فراغات مفترضة داخل الجملة الواحدة أو للربط بين جملتين أو لبداية الكلام أو لختامه؛ وكان هذا النمط اللغوي للساني محل سخرية وتندر بعض أقاربي، كزوج أختي الذي لم يرض بسلوكي نهائياً. ولكني كنت أعيد سخرية زوج أختي إلى خصام بيني وبينه في بداية تديني حينما ذهبت لزيارتهم ذات مرة وكسرت غطاء شنطة سيارته لأن فيه رمز للصليب؛ معتبراً ذلك منكراً تجب إزالته. زوج أختي غضب وخاصمني ولولا تدخل أختي لتضاربنا، وصار لا يكلمني إلا برسمية بعد ذلك.
الكابرس الذي أعطاني إياه صاحبي أراحني كثيراً وخفف من متاعبي، علاوة على أنه جعلني أتفاءل كثيراً، لهذا لم أتأخر حينما اقترح عليّ عبدالرحمن أبانمي وهو مدرس دين في ثانوية السليمانية ويعمل في مركز الهيئة أن أنضم للهيئة. ذهبت لمركز الهيئة وكنت مطيعاً للشيخ عبدالرحمن أبا نمي الذي يلقي القبض على طلابه غير الملتحين والمسبلين لثيابهم في المساء؛ وكانت له هيبة في المدرسة ويبعث على الرعب لأن الطلاب يعلمون أنه سوف يقبض على من لا يروق له منهم. ذهبت مع أحدهم لمراقبة قصر أحد الأمراء في حي الرحمانية للتبليغ عما يجري فيه. أخذت عدة أيام ونحن نذهب بعد صلاة العشاء وحتى الفجر ونحن نراقب القصر لنرى ماذا يجري من مظاهر الدعارة التي تأتي للبيت وأعطانا الشيخ عبدالرحمن بيجر لكي نكون على اتصال معه؛ وكان البيجر لتوه يبدأ العمل في الرياض. كنا نوقف السيارة في مكان مظلم ثم نبقى داخل السيارة نراقب المنزل؛ لم نكتشف أي شيء مريب لمدة أسبوع فأمرنا بمراقبة بيت آخر في حي خرينقة بالعليا ثم بيت آخر في حي المزرعة ولكننا لم نلاحظ أي شيء مريب. بعد ذلك انتقل دورنا لمتابعة أي سيارة فيها بنات لنلاحظ أين يذهبن ومن يتبعهن؛ وكنا قد دخلنا في مغامرات لمطاردة تلك السيارات حتى أن سيارة أخرجوا علينا المسدس فتوقفنا. كانت مهمتنا هي رصد أي بيت فيه بنات يخرجن بلا محرم، وإعطاء المعلومات لمركز الهيئة الذي يبدأ بمراقبة المنزل. وكان مرافقي الذي معي يتمنى لو يعطوننا فرصة لمتابعة الأسواق لأنها أكثر جدوى في القبض على الفاسدين من مراقبة البيوت طوال الليل
7-
تعطلت الكابرس التي معي فذهبت لإصلاحها ولكن الميكانيكي أخبرني بأنها تحتاج إلى خرط القير الذي يكلف مبلغاً ليس معي، فاتصلت على صديقي صاحب الكابرس وأخبرته بالأمر فقال لا تهتم بالفلوس أنا أدفعها، وفعلاً جاء ودفعها فخجلت من كرمه وأقسمت بالله إنني لا أحتاج الكابرس و لا أريده؛ فوافق على مضض وأوصلت الكابرس إلى بيتهم وشكرته على لطفه وكرمه.
سألني عن الدراسة فأخبرته أنني لم أجد أي وقت للذهاب للدكتور حزام المطيري ولكني ذهبت إلى أبو ياسر موثق كلية التربية وكان فلسطينياً يظهر من شكله أنه عنيف وصارم ونظامي ولكنه في الحقيقة أخبرني وعيناه تتراوغان بأن سجلي الآن نظيف وأنني أنجزت 84 ساعة بنجاح ومعدلي الآن ثلاثة وست وثمانين؛ وقال هذه معلومات لازم تحفظها واطلب برتن آوت وخليها معاك لكي تعرف لو سألك الأستاذ سعيد رئيس الوثائق. خرجت من عنده ولكني لم أتحمس للدراسة لأني تلخبطت ولا أعرف كيف أني أنجزت هذه الساعات و لا أدري كيف سأدرس ولا أعلم ما هو عملي مع الدكتور حزام المطيري..
غضب مني صاحبي وترجاني أن أعود للدراسة لكي أحصل على الشهادة ثم الوظيفة وذكرني بأن أمي تنتظرني فلايجب علي أن أخذلها
ذهبت إلى قسم الإدارة العامة في كلية العلوم الإدارية لمقابلة الدكتور حزام المطيري، بحثت عن مكتبه في الأسياب فلم أجده ثم ذهبت إلى القسم لأسأل عن مكتبه فوجدته جالساً في مكتب السكرتارية. سلمت عليه فتغير وجهه حينما رآني وقال تعال للمكتب. ثم نهض وذهبت معه إلى مكتبه. سألني عن اسم قبيلتي؛ وراح يسألني عن أسماء أشخاص لا أعرفهم، وسألني عن معارفي في الرياض؛ حتى أني أتذكر أنه سألني إن كان لي علاقة بالبنات؛ فاصفر وجهي وقلت: أعوذ بالله! فرد: لا أقصد السوء ياأخي، قصدي نستفيد منك في موضوع الطالبات والأستاذات و الأساتذة اللي يُدرسون هناك فهذا موضوع كبير وخطير؛ فإن معرفة الشر ياأخي تفيد كما في الحديث المشهور. ثم قال: اترك عنك موضوع البنات الحين وخلنا بالبلاوي اللي عندها هنيّه. قال لي: عندي قائمة بأسماء أساتذة عليهم ملاحظات عقدية وفكرية؛ بالنسبة للي هنا في الكلية عارفينهم لكن فيه مصائب في كليات أخرى والمعلومات عنهم ليست كثيرة. فأبغى همتك معي وترى فيه غيرك بس أنت ما تعرفهم وهم ما يعرفونك. قلت نعم، قال: أول حاجة لازم تشتري حقيبة تضع فيها دروسك وثاني شيء تشتري مسجل سُوني صغير لتسجيل محاضرات بعض الأسماء اللي رايح أعطيك إياهم؛ ثم لا تقابلني في الجامعة مرة ثانية موعدنا في البيت بعد صلاة كل جمعة. شعرت بحرج لأنني لا أملك مالاً أشتري المسجل؛ فقلت: المشكلة إن ما عندي سيارة ولا أدري من وين أشتري المسجل. قال: ماعليك رايح ندبرك؛ وفتح الدرج وأعطاني مسجلا صغيراً بحجم الكف ومعه ستة أشرطة صغيرة. وراح يشرح لي طريقة التسجيل وطريقة وضع الشريط في المسجل وتغييره، وأوصاني بالجلوس في مقعد بعيد في طرف القاعة على أن أضع المسجل في جيب الحقيبة الموجهة نحو المدرس وقال لي لاتصير غشيم خليك مطمّن رأسك وكأنك تكتب؛ ولو سألك أحد عن اسمك فأعطه اسم مستعار من عندك مثل أحمد شحاته أو أسامة أو أي شيء.. وقل أنا مُسجّل المادة متأخر و رايح أجيب لك الكشف المحاضرة القادمة. وأضاف: كل هالأمور رايح تتعلمها مع الوقت؛ حتى لو أخطيت لا ترتبك ما فيه مشكلة كبيرة. ثم وقف وقال: خلاص الحين تبدأ شغلك؛ أبعطيك ثلاثة أسماء عارفينهم من الكلية هنا أبغاك تبدأ معهم ولازم تتابعهم هالأسبوع وتجيب لي خبرهم السبت الجاي بعد صلاة العصر هنا هنيّه؛ نحتاج نتابعهم طوال السنة. وذكر لي اسم خالد الدخيل من قسم الاقتصاد وعبدالكريم الدخيل من قسم السياسة. قلت هل هم إخوة؟ قال: في العلمنة والضياع الفكري والعقدي. ثم أضاف: فيه مدرس جديد توه جاي ماندري عنه؛ اسمه عبدالله الشدادي في قسم إدارة الأعمال؛ هو حربي لكنه متنكر لأصله بسبب تغريب عقله؛ أبيك تشوف من أي لحية هو؟ وأخرج من درجه ملف مليء بالأوراق فتش فيه وأعطاني جداول الأساتذة الثلاثة؛ وقال وهو يشير إلى الجدول: هذي القاعات وهذي المواد؛ حاول تحضر لكل واحد محاضرة على الأقل هالأسبوع وتسجلها كلها حتى سواليف الطلاب مع الدكتور في آخر المحاضرة لا تفوتها تراها مهمة، والأسبوع الجاي نشوف.
لم أرتح لهذه المهمة ولكني بدأت بالفعل بتسجيل المحاضرات؛ كنت لاأفهم كثيراً مما يقولونه في المحاضرة ولكن مهمتي التسجيل فقط وهو بدوره يبحث عن الخلل العقدي لديهم كما يقول. حضرت محاضرات الدكتورين الدخيل وبقي الشدادي؛ كانت محاضرته التي حضرتها يوم الثلاثاء الساعة 1 ظهراً؛ وحينما حضرت كان عدد الطلاب قليلاً؛ وبعد أن بدأ المحاضرة اقترب مني وقال: هل أنت جديد؟ قلت نعم، رحب بي وقال: انتظرني بعد المحاضرة أو قابلني في المكتب لكي أوضح لك المحاضرات التي فاتتك وكيف تقدر تحصلها. شعرت بحرج من هذا الموقف وكنت طوال المحاضرة أفكر بكذبة تنجيني منه. انتهت المحاضرة وقال لي تعال يا..وش اسمك: قلت بسرعة أحمد المطيري؛ ولم يكن هو اسمي الصحيح ولكني عملت بنصيحة الدكتور حزام. قال تعال يا أحمد معي فوق للمكتب، ذهبت معه وكان لطيفاً ومبتسماً، فتح المكتب وقال لي تفضل بالجلوس. وراح يشرح لي هدف المقرر ومفرداته؛ وأثناء ذلك دخل علينا شخص أعرفه وسلم فإذا هو محمد الحربي أحد شباب الصحوة والذي يعمل مشرفاً على إحدى المكتبات ويحضر اجتماع مسجد الملك خالد كل ثلاثاء ويعمل مدرس رياضيات في إحدى مدارس الرياض ويعرف أنني مفصول من الجامعة؛ ارتبكت وسلمت عليه؛ فقال: هذا أخوي الدكتور عبدالله؛ وش جايبك هنا؟ كانت لحظة لعينة لا أنساها في حياتي؛ ارتبكت وأمطرني العرق؛ لم أرد عليه؛ فقط خرجت وأنا أقول: لحظة، لحظة، لحظة.. ورحت أهرول بين الأسياب؛ لقد مشيت بسرعة هارباً من هذا الموقف المخزي؛ وبعد أن خرجت من الكلية تجاه الحرم الجامعي صرت أمشي على مهل أُجرجر رجليَّ اللتين صارتا ثقيلتين بشكل يصعب عليَّ سحبهما، لقد شعرت بخزي وذلة وأحسست من أعماقي بأنني لست آدمياً وأنا أمارس هذا العمل القذر والكذب والخداع. لم أكن راضياً بهذا العمل منذ البداية؟ لا أدري كيف قبلتُ به؟ ثم لماذا؟ ظللت أؤنب نفسي وجلست في بوفية البهو و تغديت؛ وبعد صلاة العصر خرجت ورحت أمشي حتى وصلت حي أم الحمام؛ شعرت بتعب فجلست في الظل في ورشة سيارات على طريق العروبة المحاذي لأم الحمام؛ وكان التعب النفسي أكبر من الجسدي؛ قررت أن أصارح محمد بالموضوع وأطلب منه السماح. حينما وصلت إلى جامع الملك خالد ذهبت وتوضأت وغسلت رأسي بالماء وأنا أشعر وكأني أريد أن أبقى أبلل نفسي بالماء لفترة أطول؛ صليت وجلست أقرأ القرآن. خف اضطرابي بسبب أني قررت أن أترك العمل مع الدكتور حزام. رأيت سليمان الخراشي قادماً حيث موعد الاجتماع الدوري اليوم؛ سلمت عليه لكنه تجاهلني ولم يرد، حنقت وقمت ولحقته وأنا هائج وأقول ليش ماترد السلام ياقليل الحياء؟ التفت إلي فإذا يداي ترتجفان من شدة الانفعال، وهي صفة لاتزال تلازمني كلما انفعلت. كان وجهه جافاً ولكنه حينما رآى غضبي بدأ يبتسم ويقسم بالله إنه لم يراني وراح يعتذر. ثم أضاف: أنا أدوّر عليك، أبغاك في موضوع مهم، لكن مايصلح هنا، لازم نتقابل في استراحة الحديثي ذيك. رايح أمرّك بنفسي. صَمَتُّ فلم أكن مرتاحاً له؛ وخرجت من المسجد ولم أقابل محمد؛ وكانت هذه آخر مرة رأيت فيها جامع الملك خالد ومن فيه قبل مايزيد عن ثماني سنوات
8-
أوصلني ليموزين إلى حي الخليج وصليت المغرب هناك؛ وجلست في المسجد بعد الصلاة بعد أن خرج المصلون. بقيت لوحدي في المسجد معي مصحف لكني لم أقرأ منه شيئاً؛ كنت غارقاً في نفسي؛ أشعر من داخلي أنني أكره نفسي؛ ثمة إحساس فظيع وقوي بأنني لست آدمياً، إنه شعور بالخزي والحقارة يمشي في دمي. لم أشعر طوال حياتي بهذه النذالة التي أحاطت بي وخيمت على رأسي. إن ماأفعله لايمت للأخلاق ولاللدين بصلة، إنه عمل غير أخلاقي حتى وإن كانوا يقولون بأنه عمل صالح. عصفت برأسي الأفكار وتذكرت كم أنا عزيز وأنا بين أهلي وفي قريتي وأن كرامتي تشوهت بعد أن انخرطت في الأنشطة الدينية مع المطاوعة. ثمة هيجان عنيف بدأ يدبّ في جسمي؛ قمت وخرجت إلى بيتي وأنا في حالة اضطراب وفتحت الحقيبة وأخذت المسجل وضربته في الجدار بعنف ثم ألحقت به الكاسيتات؛ ورحت أدوسها حتى تكسرت؛ ثم أخذتها ورميتها. شعرت براحة نفسية بعد ذلك رغم أني لم أنم جيداً تلك الليلة. توقعت الشر من سليمان حينما سيجتمع بي؛ عرفت أنه لربما يريد التخلص مني، لعله عرف أن سذاجتي تُخفي وراءها روحاً انتقامية منه. في الصباح شعرت أن حياتي سوف تتغير؛ لايمكنني أن أبقى على هذه الحال المزرية؛ لست راضياً عما أفعله؛ الله لن يرضى عني، وأمي لن ترضى علي، والحياة لن تغفر لي سلوكي، ونفسي لن تطاوعني على هذا العمل؛ أنا ابن كرام، تربيت على الأمانة والصدق؛ أمّي تحبني وليس لها أحد غيري فأختي مشغولة بزوجها وأطفالها؛ أمي وثقت بي طوال عمرها ولم تتزوج رغم الضغوط عليها بل ظلت تحلم بي أكون رجلاً ولاتزال تنتظرني.
خرجت من البيت ورحت أمشي في الطريق في حي الخليج، مشيت طويلا وتعبت وشعرت بالعطش، فانحرفت إلى طرف الطريق حيث يُوجد شخص يبيع "الجح" في سيارته، سلمت عليه وسألته إن كان معه ماء، فأعطاني مطارة كانت معلقة على طرف الغمارة وشربت وجلست قليلا عنده فمدّ لي قطعة حبحب وأكلتها، كانت لذيذة وباردة وطعمها لم أنسه إلى هذا اليوم. سألني عن عملي فقلت له مؤذن لكن الراتب تأخر، فقال بعفوية: يارجال كد في الحبحب ذا ترى فيه خير. سألته كيف؟ قال نشتري الجح من قرية السر ونجلبه للرياض ونبيعه في نفس اليوم وفيه خير. سألته عن قرية السر، فقال: إذا صمّلت تعال معي أوديك يمها.
كان هذا الاقتراح بمثابة فتح لي، وفي الحال قلت له: أنا معك، رايح أروح معك اليوم. وذهبت ولملمت ملابسي القليلة في شماغ وربطتها وأعطيت ابن إمام المسجد مفتاح البيت وقلت أخبر والدك أني سأغيب، وجئت إليه وجلست عنده حتى باع حمولته ثم ركبنا قبيل غروب الشمس وتوجهنا نحو قرية السر
ركبت بجوار السائق في سيارته الدادسون، ورميت صرتي في الصندوق، كانت الغمارة مليئة بالأوراق وصحون متناثرة وكان هناك بالطو و شماغ وحاجات، جمعتها ووضعتها في الأسفل إلا أن السائق أخذها ووضعها في الحوض. تحركت السيارة وخرجنا من الرياض؛ كانت الشمس لاتزال صفراء، أتذكر جيداً ذلك المنظر الشاحب لمدينة الرياض حينما توقف عند مطعم وسألني ماذا أريد فذهبت معه واشترينا شاورما وعصير ثم واصلنا المسير. بعد أن مشينا تذكرت أني أريد أن أهاتف أختي لكي تُطَمئن أمي ولكني خجلت أن أطلب منه أن يتوقف؛ كان زجاج السيارة مفتوحاً وهي تمشي وصوت محركها يهدر صوتاً عنيفاً تحرك قلبي معه بعنف. لم ألتفت إلى الوراء لألقي نظرة على الرياض التي لم أرها بعد ذلك اليوم، ولم أكن أعلم بأن ظروفي ستتغير وأنني لن أعود إلى الرياض. بعد قليل ابتعدنا وعمّ الظلام، وكانت أطراف الصحراء صامتة كالموت.
شعرت بخدر شديد، كنت متعباً لدرجة كبيرة؛ كانت الأحاديث بيني وبين السائق قليلة؛ ليس هناك شيء يقطع صوت موار السيارة سوى الراديو الذي دفعني لليقظة حينما جاءت أغنية لمطربة عرفت فيما بعد أنها فيروز. كأني لمحت السائق التفت إلي كأنه يريد أن يعرف هل أنا متضايق من الأغنية أم لا؛ لم يقل شيئاً وبقيت أستمع إلى الأغنية. أذكر بيتاً منها أشغلني وحرك خيالي تقول فيه:
يوم ويومين وجمعة*** وشهر وشهرين
تِعبت في عيني الدمعة*** وين غايب وين؟
الحقيقة أني لأول مرة أشعر بأمي بهذا الشعور القوي؛ أراها أمامي وأرقب حركاتها وحديثها وكأنها معي. صحيح أني أحبها ذلك النوع من الحب الفطري ولكني لم أكن مهتماً بها بالصورة التي ترضيني. الآن وفي هذه اللحظة تراءت لي صورة أمي، وليس هناك أحد غيرها، وبدأت سلسلة الذكريات تنساب على ذهني وأعرف أني كذبت عليها وغررت بها فهي لاتزال تعتقد أني أدرس وتنتظر تخرجي. أحسست بعَبرة كبيرة مختنقة في صدري. انتهت الأغنية دون أن أشعر. استرخيت وأنا أحس بسكينة تحيط بي، ولم يلبث هذا السكون أن تحول إلى مايشبه القلق فقد بدأ صراع في داخلي حول سماعي لأغنية وهي حرام. لم أكن في السابق أسمح لنفسي للحظات أن أصغي لأي صوت موسيقي. إنني فيما بعد تعرفت على أدلة إباحة الأغاني وعرفت أنها ليست محرمة ولا حتى مكروهة كما لقنونا، ولاأخفي أنني شعرت بغيض كبير وحنق عليهم في حينها وندمت على ماكنت أقوم به من إنكار عنيف على من يستمع الأغاني؛ كنت وأنا وسط خيالي أحدث نفسي بأن أمي تغني وهي تعشب العشب في الربيع وأخوالي وأقاربي يفعلون ذلك دون أن يعتقدوا بأنها حرام؛ هذه الوقائع لم تكن في السابق لتأخذ من عقلي أي جزئية لأنه كان مُنصباً على أن كل ماقيل لي في الرياض من المطاوعة هو بالضرورة صحيح ونهائي.
سألني السائق: كيف رايح تجلب حبحب وأنت ماعندك سيارة؟ كان السؤال مفاجئاً لي، لم أفكر فيه وربما لم يفكر هو به حينما اقترح علي أن أبيع حبحب. احترت، إنها مصيبة، كنت أريد البحث عن حل ولكني الآن في موقف صعب. حالتي النفسية المضطربة حالت بيني وبين معرفة الحل؛ قلت له وقد غص صوتي: والله ياخوك مدري وش أسوي. لحظة صمت شعرت فيها بأنني لاأزال طفلاً لاأفهم من الحياة أي شيء؛ ثم قلت له: ممكن ارجع معك بكره للرياض؟. قال: طيب
9-
هنا تفاصيل لاأعتقد أنها تهم القاريء ولكن لشيء في نفسي أود قوله فاسمحوا لي بهذا الاستطراد الذي أتمنى ألا يبعدنا عن الموضوع.
حينما رأيت أن فرصة بيع الجح لم تعد لي، أحسست بشعور آسن من الغربة والضياع وشعرت أنني أريد أن أبكي. أتذكر جيداً كل تلك التفاصيل الموجعة لحظة بلحظة. وبعد فترة لاأدري كم مقدارها عرفت أننا وصلنا إلى قرية السر حينما سمعت صوت السيارة الهزيل وهي تمشي على الطريق الرملي. قال: نبيت هنا والفجر نحمل السيارة ونمشي. أوقف السيارة في الصحراء المظلمة وفك فراشه وعدة الشاهي، كان يضحك ويتكلم وهو يرتب الفراش في حين كنت في عالم آخر من الوساوس والقلق. جلسنا وأكلنا وشربنا الشاهي وقال لي: وش رأيك تحمل جح، الحبة بنص ريال. قلت كيف؟ وشرح لي أن العمال الأجانب هم الحمالين وأنهم يكسبون؛ وقال بأنه سيتعامل معي كل يوم وسيوصي من يعرف من الموزعين علي. في الصباح حملت سيارته وكان يساعدني ودفع لي الثمن ثم ذهب، بقيت أبحث عن أحد أحمّل له جح لكن الجميع كانوا محجوزين من العمال. لم أذهب إلى مزارع أخرى، بقيت هنا و بعد أيام صرت أحمل عدة سيارات قبل طلوع الشمس فقد كان كثيرون يتعاطفون معي، ولكن العمال خفضوا سعر التحميل بعد أسبوع إلى ربع ريال للحبة الواحدة. لم أهتم، كنت كل يوم قبل طلوع الفجر أكون قد جمعت الجح في طرف المزرعة ثم أبدأ بالتحميل، كان لدي نشاط عنيف، كنت أحمل أكثر من ألف وخمسمائة حبة وأحيانا تزيد إلى ألفين؛ وكنت أقبض الأجرة في الحال وأخبئها في ثيابي. استمريت على هذه الحال، أحمّل الجح قبل الفجر حتى منتصف النهار ثم أذهب إلى مقهى ليس بعيد أجلس فيه وآكل وأنام أحياناً، بعد العصر أعود إلى المزرعة لتجميع الجح ووضعه في ركن استعداداً لتحميله في الصباح. كنت حينما أتعب أنام في الحقل، أحمل الشماغ الملفوفة فيه ملابسي البسيطة، أضعه وسادة لي. كنت أشعر براحة نفسية، الجو هاديء ونظيف، رأيت النجوم في الليل والقمر وشعرت بالطبيعة. لم أكن ألقي بالاً لهذه الأمور في السابق، كنت مشغولاً، بل كنت مقبوضاً عن الحياة. لم أغضب ولم أشعر بأسف شديد حينما فقدت خمسمائة ريال لاأدري أين اختفت. كانت الأموال تتكاثر في يدي يوماً بعد يوم وأنا أعمل بعنف شديد. إنني في الحقيقة لا أدري لماذا كنت أقسو على نفسي بذلك الشكل، فلم أكن محباً للفلوس لتلك الدرجة التي تجعلني كالآلة التي لاتستريح؛ يظهر لي الآن أني كنت أعذب نفسي من خلال العمل الشاق، فلم أكن أنام سوى ساعة أو ساعتين بالكثير. لربما كنت أريد أن أنسى مشكلتي من خلال العمل؛ لكني بعد أسبوعين أو ثلاثة بدأت أفكر جدياً في حالي. هل كل المطاوعة مثلي؟ أم أن هذا وضع يخصني بسبب ظروفي وشخصيتي الساذجة؟ وتساءلت هل فعلاً كل من يدخل في التيار الديني سوف يمارس الأنشطة المشبوهة التي تعرفت عليها منهم؟ بالتأكيد الجواب لاأدري؛ لم أختلط بهم بعد ذلك بل إن شعور النفور منهم ظل يسيطر على مشاعري لأكثر من ثلاث سنوات فقد كنت لايمكن أن أطيق أن أستمع لأحدهم أو أجلس معه بل لايمكنني أن أسير مع السيب الذي يظهر فيه أحدهم من بعيد، ارجع وأغير مساري حالما أرى رجلاً من ذلك الصنف. في أعماقي غضب لكني لاأعرف لمن أوجهه؛ استمرت معي هذه الحال فترة طويلة حتى وصلت إلى مرحلة من التفهم والتعايش معهم بعد ذلك وعرفت أن بعضهم م ضحايا مثلي. لكن سؤال هل هناك غيري مر بمثل حالي؟ جوابه نعم ولكن هل شعروا بذلك أم لا؟ أعتقد الآن أن هناك من تربى على الطواعة منذ الصغر بسبب أهله مثلا ولهذا فإنه لن يلحظ تغييراً يمكن له أن يميزه؛ أو أن تلك التصرفات السرية هي تصرفات طبيعية في عرف البعض ولكنها لم تكن طبيعية معي وخاصة في الفترة الأخيرة.
لاأنسََ أنني في بعض الليالي أفزع وأصرخ لوحدي في الحقل، كنت حينما أفرغ من تجميع الجح أجلس مناجياً نفسي عن سبب شقائي، وشعرت بندم عنيف على تركي للجامعة وأنني ضيعت عمري في لاشيء, لاشيء, لاشيء.. كنت أنفعل وأنا أضع جسمي متقلباً على أرض الحقل الرطب؛ كنت أشعر بضربات قلبي المتعبة تخفق من الأرض؛ وفي كل مرة أرمي بجسدي المنهك على الأرض أشعر بقلبي المرتج يخفق مع الصمت المطبق على الحقل. لقد بكيت بمرارة وبصوت عالٍ، غضبت على أمي لأنها سمحت لي أن أذهب للرياض ثم تراجعت فهي مسكينة تريد مصلحتي ولاتريد إغضابي؛ فأنا الذي أخفيت عنها نشاطي وكذبت عليها كلما سألتني عن دراستي. ثم حنقت بشدة على خالي: لماذا لم يسأل عني؟ لماذا لم يمنعني من المطاوعة؟ لماذا ظل صامتاً وهو يعرف أني تغيرت، لقد كان يكتفي بالسخرية من طريقتي في التسليم التي تعلمتها في الرياض. زوج أختي كان في نظري تافهاً وأصلا لايمكن أن أتقبل منه أي نصح لهذا فلم يخطر ببالي أن ألومه.. كان عقلي يصغر ودائرة تفكيري تحوم وتركز حول نقطة واحدة لاتحيد عنها ولاأرى فيها سوى خالي، اللوم كله تجمع حول خالي، خالي الذي كان يسب جهيمان أمام أمي لكي يسمعني، خالي كان يستطيع أن يمنعني بالقوة، فله هيبة عندي. لكنه لم يفعل، بل تركني أضيع وأهمل دراستي كل هذه السنوات دون أن يسأل عنها لكي ينتهي بي المطاف أن أكون حمّال جح ذليل مرعوب يستجدي الموزعين أن يُحمّل لهم ويتوسل للعمال أن يتركوه بحاله. ذات يوم كنت أمشي خارجاً من الحقل إلى المقهى والشمس تصب لهباً فوق رأسي أحسست بأنني وحيد في كل هذا العالم ؛ كنت أجر نفسي بتثاقل، وأتذكر أني صرخت بصوت عالٍ سمعه من كان في المقهى:
خالي.. يلعن أصلك.. ياكلب..
بالطبع لم أقصد من تلك الشتيمة سوى أن أخرج زفرة رائبة على كبدي أتعبتني، لقد كان رأسي مشوشاً تخفق فيه أصوات متشابكة وحادة.. كنت راضياً بوضعي الذي أنا فيه، ولكني كنت نادماً على مامضى من حياتي؛ وكنت أعتقد في تلك اللحظة أن هناك أحداً غيري مسؤول عما وصلت إليه من ضياع . صورة أمي لم تبتعد عني، هناك حنين وشعور بالذنب تجاه أمي لايزال يمعر أعماق قلبي إلى هذا اليوم
بقيت في قرية السر أقل من شهرين حتى أوشك الجح على الانتهاء رغم كثرة المزارع؛ وقيل لي بأن الموزعين يتجه أغلبهم بعد ذلك إلى الشمال وبالتحديد إلى مدينة حائل التي يتأخر موسم الجح فيها عن السر قليلاً. وذات ضحى جلست في طرف الحقل بعد انتهاء التحميل وفتحت صرتي ورحتُ أعدّ ماجمعته من مال؛ لقد كان معي أكثر من اثنين وعشرين ألف ريال. مبلغ ضخم حصّلته في فترة وجيزة. بقيت في المقهى ذلك اليوم وكنت من عدة أيام وأنا أنوي شراء سيارة مستعملة. كان هناك شخص فلسطيني لديه سيارة كريسيدا علمت من صاحب محطة البنزين أنه يريد بيعها، ساومته فباعها عليّ بثلاثة عشر ألف وخمسمائة ريال؛ ذهبنا للمعرض وأنهينا إجراءات نقلها إلى اسمي وسلمته المبلغ نقداً. ذهبت إلى الحلاق وطلبت منه تقصير شعر رأسي ولحيتي؛ لقد طلبت منه أن تكون مجرد عوارض كثيفة كمرحلة للانتقال إلى تخفيفها ثم حلقها نهائياً بعد أقل من سنة. اشتريت ثوب دفة مناسب وليس قصيراً كثيابي السابقة. من فجر الغد ركبت السيارة وتوجهت نحو بلدتي؛ لدي شعور داخلي بالحرية.أحسست أن الانقباض في صدري قد زاح وأن كلامي مع الناس صار أكثر وضوحاً وأقل حدة من قبل. نشوة ابتهاج كانت تسيطر علي وأنا في طريقي إلى بلدتي. تُهت في الطريق أكثر من مرة ولكني في النهاية دلّيت ووصلت
10-
عند باب بيت خالي استقبلني الأطفال واحتفوا بي بحرارة وجلست في مجلس الرجال حيث وصل خالي وابنه الكبير وسلمت عليهم وهم فرحين ولم يُخفِ خالي ابتسامته حينما قال: الحمد لله إنك خففت من لحيتك! كانت مثل لحية جهيمان! ثم قال: مبروك النجاح. رددت عليه العبارة التقليدية في مثل هذه التقاليد الروتينية. سألت عن أمي فقالوا إنها في غرفتها، تعال إليها، ذهبت وسلمت عليها وعرفت أنها مريضة. كانت تجاهد نفسها لكي تبدو متعافية لكن أعراض المرض كانت واضحة في وجهها النحيل. قالت الحمد لله ياوليدي على سلامتك؛ ولم تلبث أن انسابت منها دمعة وصارت تكبر حتى انزلقت على خدها المجعد؛ حاولت أن أقول شيئاً لكني لم أستطع؛ كانت غصة دامعة تمزق حلقي. رأت زوجة خالي دموع أمي فقامت تُهدئها وتطالبها أن تحمد الله على سلامتي، لكن أمي لم تتحمّل فظهر صوتُ نشيجها بوضوح. قال لي خالي وهو يحاول تهدِئتي: أمك عليها صخونة بسيطة من أسبوعين لكنها الحين أحسن. وأضاف: راجعنا المستشفى وأعطونا لها علاج وإن شاء الله تطيب. تلك الليلة حاولت السيطرة على قلقي حينما قدم الضيوف على عشاء أعده خالي احتفالاً بي كعادتهم. كثيرون سألونني عن تخرجي وكنت أردد: الحمد لله تخرجت من الشر. بعضهم لمَح تغير شكلي لكن لم يصارحني بذلك أحدٌ سوى خالي الذي كان فرحاً بي وهو يقول: الحين مابقى لك إلا الزواج! إنه يلمح إلى بناته بالطبع، وقد مرت عليّ عروض زواج كثيرة من المطاوعة في الرياض لم ألتفت إليها. في تلك الليلة جاءت أختي وأخبرتني بأن أمي تعبانة بالمرة من أشهر, كانت صحتها تتحسن ثم ترجع إلى حال أسوأ؛ و تتمنى لو أني أذهب بها إلى الرياض لكي أعالجها هناك. قالت لي: كلنا ننتظرك والحمد لله إنك جيت. في الصباح أخذتها إلى المستشفى العام وهو المستشفى الوحيد في بلدتي؛ مرت فترة طويلة قبل أن يراها الطبيب. وحينما نظر في سجلها الطبي أخبرني أن قلبها مريض وتحتاج إلى عملية تغيير الشريان التاجي، قال لي إنها عملية بسيطة لكنهم لايستطيعون إجراءها هنا وأني أحتاج إلى الذهاب بها إلى المستشفى العسكري في الرياض أو مستشفى قوى الأمن أو مستشفى الملك فيصل. تلخبطت وزاد ارتباكي وشعرت بالضعف وأنا لاأدري ماذا أفعل؛ عدنا إلى بيت خالي الذي اقترح علي أن أرسل برقية إلى الأمير سلطان لكي يوافق على معالجتها في المستشفى العسكري. في الحال ذهبنا وكتبنا ثلاث برقيات واحدة للأمير سلطان وأخرى للأمير سلمان وثالثة للأمير نايف. مر أسبوع وأنا أراجع المستشفى تارة و"بقالة ومخبر..." التي كتبت فيها عنواني ولكني لم أجد أي رد. رحت مرة أخرى وكتبت البرقيات من جديد.
مر شهر وأنا كل يوم أتصل بالمستشفى وأمر على البقالة لعل جواباً من الأمراء جاء، ولكن الإحباط كان نصيبي باستمرار. أمي تعبت أكثر ونُوّمت في المستشفى، كنت مُرافقاً لها في المستشفى؛ أجلس معها وأحكي لها وراودتني فكرة أن أصارحها بحالي عدة مرات لكني في كل مرة أؤجل ذلك لكي لاأصدمها. أخبرتها أني بعت سيارتي الدادسون واشتريت الكريسيدا. قالت بأن تلك أكبر ولكنها دعت الله أن يعطيني من خيرها ويكفيني شرها.
ولكثرة مجيئي إلى قسم العلاقات العامة في المستشفى وإلى الإدارة باحثاً عن رد من الأمراء- فقد رق أحد الموظفين لحالنا واقترح عليّ أن أتصل على مكتب الأمير سلطان في الرياض بالتلفون وأسالهم عن البرقية. حصلت على تلفون مكتب الأمير سلطان وكلمت وأعطيتهم رقم البرقية فقالوا لي لابد من إحضار تقرير طبي؛ فأرسلت لهم التقرير الطبي بالبريد الممتاز وعاودت الاتصال بعد أسبوع وقالوا لي مرة إنها أحيلت إلى اللجنة الطبية؛ ومرة بأنها حفظت. كنت أشعر بعد كل مكالمة أني مملوء بالدمع من الداخل وكنت أمشي في الشارع المحاذي للمستشفى وأسأل الله أن يعافي أمي وكنت أرى المخلوقات تغيم وراء ستار من الدمع؛ فلم أكن متفائلاً أنهم سوف يساعدوننا بدون واسطة. دخلت أمي في غيبوبة وأخبرنا الطبيب بأنها أصيبت بجلطة خفيفة في الدماغ كذلك. الآن لاأتذكر شيئاً، هناك مرحلة غير واضحة مررت بها، كان خالي غاضباً حانقاً وهو يصرخ في المستشفى: فلوس الشعب راحت للكلب وللي ماله قلب وحنا مانلقى من يعالجنا؛ عليكم ألف لعنة ياعيال الكلب.
قال لي خالي بكره رايح نفرش بطانية في سيارتي ونروح فيها للرياض وندخلها المستشفى عن طريق الإسعاف غصبن عليهم. أردت أن أقول شيئاً لكني لم أستطع، كان خالي قوياً وصلباً وشعرت بأن قراره هو عين الصواب، فليس بيدي حيلة. بعد صلاة العشاء جاء أحد الأقارب لزيارة شخص في المستشفى وقابلنا صدفة في السيب وسلم علينا وسأل عن حالنا فأخبره خالي بمرض أمي وبحالنا البائسة ونحن نترجى أي أحد أن يساعدنا في إدخالها واحداً من المستشفيات الكبيرة. قال: مالكم إلا الأردن، وتكاليف علاجها على حسابي وأنا أبو فهد! كان في قمة الحماس وهو يقول: والله ماتروح حياتها ضياع وحنا حيّين. لقد بعث في روحي الأمل وتفتحت مسامّ جسدي إلى شعور رائق يوحي بأن هناك بصيص حياة جميلة. من الغد ذهبت مع خالي إلى الجوازات لكي نحصل على جوازات سفر، وفي نفس اليوم استلمنا الجوازات. في سيارة خالي الجمس حملنا أمي وودعنا من حضر من أهلنا ثم مشينا. جلست بجوار أمي في المرتبة الخلفية وبكيت ذلك اليوم، كان خالي يغني بصوته الشائخ المتهلهل وهو يقود السيارة بسرعة جنونية وقد رمى شماغه على كتفه. كان الجمس يمشي فوق الأزفلت الملتهب كالسهم وكلما انعطف أصدرت عجلاته صريراً متواصلاً كأنه النواح. لقد كان خالي شهماً فوق ماتصورته، كان يحمل همنا حتى لو أني غضبت منه في السابق فقد محا سلوكه هذا كل شعور سلبي في نفسي. لقد كان طوال الوقت يحاول تلطيف الجو وهو يسرد حكايات أناس مرضى شفاهم الله. لقد كانت هذه الرحلة تحمل آمالي وطموحي وأحلامي وبؤسي ويأسي وقوتي وضعفي .. لاأعلم مقدار المدة التي قطعناها حتى وصلنا إلى عرعر ثم الحدود.. كلما مررنا بمدينة توقفنا لتعبئة البنزين ونأخذ طعاماً لنا؛ وقد نتوقف للوضوء والصلاة. كلما طلبت من خالي أن أسوق بدلا منه يرفض؛ واستمر يقود الجمس حتى اجتزنا الحدود بيسر.. سأل خالي عن المكان الذي سنذهب إليه فأخبروه ثم انطلق.. مرت فترة نعست فيها من شدة الإعياء وأنا أراقب أنفاس أمي حتى سمعت خالي يقول: وصلنا، وصلنا إلى مدينة الملك حسين الطبية في عمَّان.
في الحال نزل خالي وعبأ بعض الأوراق ثم جاء الممرضون وأنزلوا أمي للإسعاف، ولم تلبث وقتاً طويلاً حتى نقلوها إلى غرفة مستقلة. في نفس الليلة أجروا عليها الفحص واطلعوا على التقارير التي معنا وقالوا: سنجري لها عملية تبديل شريان القلب بعد يومين، سنأخذ شريانا من ساقها ونضعه للقلب. أجريت العملية التي استغرقت ثمان ساعات كنت خلالها أنا وخالي في حالة يرثى لها من التعب النفسي والجسدي، ولكن كل ذلك اختفى حينما أخبرونا بأن العملية نجحت، ضمني خالي وبكى، لقد كانت أول مرة أرى خالي يبكي فبكيت معه. ثم أعطوها أدوية لعلاج الجلطة وبعد أقل من شهر كانت أمي بعافية وصارت تتكلم معنا. كان أبو فهد الذي تكفل بعلاجها لايكف عن الاتصال بنا طيلة وجودنا في الأردن؛ وحينما عدنا زارنا وكنت عاجزاً عن شكره بما يليق بفضله لأنه أنقذ حياة أمي لكنه لم يكن يريد الشكر بل كان يفعل ذلك لوجه الله. ولأنه كان متعاطفاً معي فقد بحتُ له وحده بقصتي مع المطاوعة في الرياض، اندهش وغضب واقترح علي أن أدرس في جامعة البترول والمعادن. بالتأكيد كان عندي حماس قوي ورغبة عنيفة في أن أدرس من جديد، كان وقت القبول قد انتهى ولكنه استطاع التوسط لي لكي يجرون لي اختبار مقابلة، وذهبت للشرقية واختبرت وقُبلت هناك. وأنا مدين له طول عمري بهذا الفضل الذي أعجز عن الوفاء به في هذه الدنيا
11 -
مع بداية العام الدراسي لعام 1414هـ شرعتُ في الدراسة في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن؛ بدأتُ الدراسة بجدية، سكنت في شقة خارج الجامعة ومعي أمي. وشعرت بأنني أبدأ حياة جديدة وجميلة، أحببت الدراسة وكنت سعيداً بتخصصي وشعرت أنني أرى الحياة بعقل أكثر وعياً مما كنت عليه في جامعة الملك سعود. أمي كان سعيدة وهي معي ولم تغضب حينما أخبرتها بحقيقة ماحصل لي في الرياض، قالت لي هذا قدر الله، وشكرته أنه أنقذني. لاأخفي أنني بقيت فترة من الزمن أكره المطاوعة وأتجنبهم مااستطعت ولاأخفي امتعاضي منهم كلما قابلت أحداً منهم سواء في الجامعة أم في السوق أم في الشارع.. ولكني في الحقيقة لم ألبث أن شعرت بخطئي وأنني ينبغي ألا أكون ضحية كذلك لردة الفعل من مطاوعة الرياض؛ وبدأت أتفهمهم وأقدرهم وأجزم في قرارة نفسي أن كثيرين منهم هم ضحايا تائهين مثلما كنت. إنها فقط الظروف التي رمتني بهم وهي التي أنقذتني منهم؛ هكذا هي الاقدار، فمن يدري ماذا ستكون حال هذا الشخص أو ذاك غداً أو العام القادم؟
تخرجت بمعدل مرتفع ولم أتعب في الحصول على وظيفة في إحدى الشركات. الآن أعمل في وظيفة محترمة وعندي سيارة وأفكر في شراء بيت صغير، أنا سعيد بحياتي الحرة؛ أحب الحياة والموسيقى والزهور والمطر. وأمي تنعم بصحة وراحة وتتناول بعض الأدوية
لكن ما الذي حصل هذا العام وجعلني أكتب تجربتي هذه؟
بعد أحداث سبتمبر المؤلمة وحرب أمريكا لأفغانستان بدأت خطابات الجهاد والكره تشيع في الوسط السعودي وبين الطلاب. كنت في غفلة عن ذلك، فأنا مشغول بعملي واهتماماتي في القراءة وليس لي علاقات كبيرة مع الناس. ولكني في الصيف القريب هذا وقبل بداية الدراسة زرت أنا وأمي أختي في بلدتي. أختي لها ولدان أحدهما في الثالث الثانوي والآخر في الثاني الثانوي. لقد وجدتهما في حالة يرثى لها، إنهما يمرّان بنفس تجربتي التعيسة. قالت لي أمهما: إن الابن الأكبر كاد يذهب إلى أفغانستان للجهاد لولا أني أقسمت بالله لأقطع ثديي الذي رضع منه لو راح، والحمد لله أطاعني! صعقت. ياإلهي، هل يمكن أن يكون هذا؟ يظهر أن البلدة قد غزتها الأفكار المتطرفة لشباب الصحوة. حاولت أن أكون قريباً منهما؛ تكلمت معهما بهدوء، قلت لهما كل ما أعرفه عن المطاوعة لكني لم أذكر كل التفاصيل. لم يكن الأكبر يعيرني أي اهتمام، بسبب مرحلته العمرية التي أتفهمها جيداً. لكن أخاه كان أكثر اقتراباً مني ربما بسبب محبته لخاله، وقد ارتاح لي وأنصت لكلامي وكان يناقشني بقوة حول ظلم أمريكا وصحة دين طالبان وغير ذلك من القضايا المتعلقة بابن لادن. كنت مرتاحاً لنقاشه لأني أعتقد أن الشخص إذا كان يسأل ويناقش فهذا يعني أنه يسير في الطريق الصحيح نحو تحرير عقله من الركون إلى الخرافات والأوهام.
أعترف بأنني شعرت بأن أبناء أختي يمرون بما مررت به، ورغم أن علاقتي بوالدهم لا تزال متشنجة إلا أني أخذت على نفسي عهداً أن أستمر معهم حتى النهاية وأن أحميهم ممن يريدون التغرير بهم واستغلال طفرة الحماس والشباب التي يمرون بها. أتذكر بكل وضوح حنقي على خالي وأنا في معمعة الضياع في دروب مظلمة وموحشة، ورغبتي منه أن يتدخل لإنقاذي. لهذا لن أترك أبناء أختي يمرون بما مررت به؛ أعرف العذاب والتشرد والدمار الذي لا يمكن أن يقف عن حد معين.. كان الواجب يحتم علي أن أكون معهم في هذا الوقت.
والجميل في الأمر أنه بعد بدء الدراسة بفترة اتصل علي ابن اختي الصغير وأخبرني بأنه كتب مقالة عن ابن لادن في الانترنت.
إنه لا يعلم أن خاله هو صاحب هذه القصة ، ربما سيعلم حين يقرأ هذه الأسطر، هو يتذكر أني وعدتهم أن أكتب تجربتي لهم على الانترنت، أعتقد أن فيها أموراً سوف تفيدهم هم وبقية أبنائنا وإخوتنا المغرر بهم
12 -
ثمة ملاحظات أوهوامش وددت أن أضيفها إلى هذه التجربة، وهي مجرد إشارات سريعة من المؤكد أن القاريء الكريم لديه ماهو أعمق منها.
1- القابلية للتغيير الفكري لدينا سهلة، سواء أكان التغيير نحو التزمت الديني وهو مانطلق عليه في السعودية "الطواعة" أو نحو الاعتدال الذي يمكن تسميته -تقريباً وليس قطعاً- بالليبرالية وهو تغيير -في الغالب- يكون بعد تجربة الطواعة وهناك من يصل إلى ذلك دون المرور بالطواعة. ومن نافلة القول أن أشير إلى أنه ربما يكون من المحتمل أن الليبراليين ذوي العوارض كانوا ذات يوم من أهل اللحى، ولكن لأسباب نفسية واجتماعية بحته لم يشأوا حلق اللحية نهائياً، في حين أن البعض لم تعد تعنيه هذه المجاملات الاجتماعية في مظهره الشخصي ففعل مايرتاح له هو.
وقد تكون هناك عوامل تساهم في التسريع بهذا التغيير كالمرحلة العمرية، فالشباب والمراهقون أسرع وأعنف بسبب طبيعة المرحلة وهذا ما يجعلهم عرضة لتبني أي فكر مدعوم وله أنصار أقوياء وبارزون. وكذلك العوامل النفسية والاجتماعية التي يمر بها الشخص تلعب دوراً مهما في مدى تقبل الشخص للأفكار الجديدة ولاسيما مايمكن لي تسميته الصدمة الحضارية في الانتقال من مجتمع صغير كالقرية إلى مجتمع كبير ومنوع في المدينة كالتي مررت بها حينما انتقلت للرياض فقد تركت أثرها على عقلي الذي انبهر بالجديد وسرعان ما تبناه وانسجم معه تحت تأثير نفسي مؤقت!
2- كثير من الشباب المطاوعة هم ضحايا، وربما ليس لهم إرادة فيما هم فيه من حال. بعضهم يكون نشأ في بيئة متدينة فأبوه وإخوته وأقاربه مطاوعة وبالتالي نشأ مثلهم وتأثر بحياتهم؛ وبعضهم يكون مدفوعاً لذلك بسبب محاكاته لشخص معجب به من معلم أو قريب يكون مطوعاً. والبعض يكون قد تطوع تحت تأثير ظروف صعبة كالتي مر بها كثيرون أثناء حرب الخليج، وقد تكون ظروفا شخصية. هؤلاء يعتقدون أنهم على منهج صحيح وكل معلوماتهم تشير إلى صحة تصرفاتهم بحسب تربية معينة؛ هؤلاء هم ضحايا ومساكين ويجب علينا العطف عليهم والرأفة بحالهم ومساعدتهم لإنقاذهم من هذه الهوة التي هم فيها. فئة أخرى هي التي تلام وتستحق العتب وهم المنظرون والحركيون الذين يقودون هؤلاء الشباب، وهم المطلعين على خطأ بعض التصرفات ولكنهم يزينونها عن قصد ولأهداف غير نبيلة في الغالب.
3- الشكل الخارجي للشخص مهم وليس مجرد قشر كما يعتقد البعض، فبمجرد تغير شكل الابن أو الأخ أو القريب ليس فقط من حيث تقصير الثوب وإطالة اللحية، بل في الانقباض والانطواء على ذاته شكلياً، فهو يصر يديه بشكل معين ويطرق برأسه ويبرم شماغه على رقبته بطريقة تظهره خانعاً مسلوباً. ثم إن لغته غير واضحة وتكثر فيها الهمهمة والتردد، ويقل ضحكه ومزحه حيث يتجه للصرامة والجد طوال وقته. هذه سمات شكلية تعني أن هذا الشخص بدأ يتقوقع على ذاته ويعتزل العالم وهي خطوة في طريقة لكي لايرى الناس بعين واضحة. بل إنه لايرى الطبيعة جميلة كما خلقها الله، ولايرى جمال من حوله من الناس أو من المنجزات؛ إنه منشغل في ذاته التي انغلقت على نفسها بشكل معين فلا يقرأ ولايتابع ولايشاهد إلا للمساحة التي هو فيها ولايتحرك إلا في هذا النطاق المحدود.
4- حجب العقل عن التفكير هي الطريقة الرئيسية التي تمارس على الضحايا من أتباع المطاوعة؛ فالأتباع فقط يصغون وينفذون، بل إن طريقة التعامل توضح كيف أن الأمور تعرض بطريقة قطعية وجازمة وقوية لاتقبل النقاش ولا التردد، ولايسع التابع سوى التنفيذ حتى في مسائل الأكل والشرب وغيرها من الأمور اليسيرة. الهدف هو حجب التفكير ليتحول الذهن إلى آلة تتم برمجتها وهي فقط تقوم بتنفيذ الأمر أو الطلب بحسب البرمجة دون أي خطأ محتمل. وحينما يبدأ الطالب أو التابع يسأل وينتقد أو يحاول الاعتراض فإنه سيكون عبئاً لابد من ترويضه للطاعة أو التخلص منه.
5- المراكز الصيفية والأنشطة بعد الدوام المدرسي والمخيمات الخارجية ومكتبات المساجد تتضمن خطة مصممة بحرفية لتجنيد الطلاب لأغراض معينة؛ وهدفها الأساسي الخفي هو إعداد جيل مطيع ينفذ ما يقال له. الشعار المعلن هو حفظ الشباب من الضياع في الشوارع، ومساعدتهم على حفظ القرآن الكريم؛ والأهل يعجبهم هذا الشعار ويستجيبون له؛ لاسيما وأن البديل في نظر الأهل هو الصياعة في الشوارع. ربما يكون الأهل مشغولون بكثرة الأطفال أو بالأعمال التي لاتسمح لهم بالجلوس مع أبنائهم؛ لهذا يفرحون بمن يرعاهم؛ ولهذا فهم يشعرون بأنهم مدينون للمراكز الصيفية والأنشطة بالكثير لأنهم قاموا برعاية أبنائهم بالنيابة عنهم وبدون مقابل! هذا هو مايعتقده كثيرون ممن لايعرفون خبايا الأمور؛ ولكن الواقع هو أن حفظ القرآن مثلاً ليس إلا أمر ثانوي، لقد عملت في مكتبة وأعرف ذلك، هو لإشغال الطلاب وإرضاء أهاليهم، في حين أن الأمر المهم هو الدروس التي يعطون والتعليمات التي يجب عليهم تنفيذها. في الأنشطة خارج المدرسة لايلاحظ الزائر شيئاً مشبوهاً، سيجد أن الطلاب لديهم برنامج لعب كرة وبرنامج مزح ونكت ولكن هذه أشياء ليست إلا ثانوية في نظر المخططين، المهم هو اللقاء بالضيف؛ والطلاب أنفسهم لايعلمون عن ذلك. المهم هو تلك التعليمات التي تُعطى للطلاب أثناء ممارستهم لأي نشاط فيطيعوا المشرف دون سؤال. هناك خطة لتدريب عقول الطلاب للتحول من السؤال إلى التلقي ثم التنفيذ؛ وحينما تتحقق هذه الغاية التي يصبح فيها الشخص أداة يسهل تحريكها فإنه سيترقى وسينال حظوة لاينالها ذلك الشخص كثير الأسئلة!
وخير مثال توضيحي يمكن أن أسوقه هنا هو أن الذين اشتركوا في تفجيرات سبتمبر 11 من السعودية، اعترف أهلهم من خلال المقابلات أنهم لم يكونوا يعرفوا أين أولادهم، والبعض يعتقد أن ابنه في المدينة الفلانية يدرس أو يتعلم.. بعضهم كانت أسرته كبيرة وبعضهم تاجر مما يعني أنهم مشغولون عن هؤلاء الأبناء انشغالاً كلياً وبالتأكيد إنهم سيشكرون من سيرعى أبناءهم نيابة عنهم دون أن يعوا أن هذا الذي يرعاهم إنما هو يجندهم لتأدية غرض ربما يكون شبيهاً بما حصل في سبتمبر تحت شعارات حركية ألفتها الشخصية/الضحية.

المصدر  اضغط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق