الأحد، 16 فبراير 2014

مقهى داخل شجرة مجوفة


في جنوب إفريقيا هناك تجويف كبير في وسط شجرة فريدة من نوعها وتم تحويلها إلى مقهى، وهذا الصنف من الأشجار يكون عادة في السافانا الجافة الساخنة بإفريقيا جنوب الصحراء، ويعود تاريخها حسب الكربون الإشعاعي إلى 6000 سنة أي قبل الميلاد والسبب في ذلك التجويف الداخلي هو أن الشجر الإستوائي عندما يمضي عليه 1000 سنة يصبح مجوفا من الداخل .

110
5613326084_6883350ee5_z
sto-eswteriko-enos-zwntanou-dentrou-6000-etwn-01
sto-eswteriko-enos-zwntanou-dentrou-6000-etwn-02
sto-eswteriko-enos-zwntanou-dentrou-6000-etwn-03
sto-eswteriko-enos-zwntanou-dentrou-6000-etwn-04
sto-eswteriko-enos-zwntanou-dentrou-6000-etwn-05
sto-eswteriko-enos-zwntanou-dentrou-6000-etwn-06
sto-eswteriko-enos-zwntanou-dentrou-6000-etwn-07
sto-eswteriko-enos-zwntanou-dentrou-6000-etwn-08

الأربعاء، 12 فبراير 2014

سبب انتكاسة ما يُسمى ب (الربيع العربي) ؟هل يستقيم هذا مع منطق التحليل العلمي؟!



فصل الدين عن الدولة... صيغة أخرى للسؤال


ظلت العلمانية ولا تزال في الثقافة الدينية - السياسية للعرب رمزاً للكفر والإلحاد، 

في مقابل ذلك نجد أن الغرب الذي يأخذ بالعلمانية لا يعتبرها كذلك على الإطلاق. 

ينطوي هذا التقابل، من ضمن ما ينطوي عليه، أن المسلمين فرضوا معنى للعلمانية 

من خارجها، بل ويتناقض مع مقتضياتها الأيديولوجية. يقال إن هؤلاء الغرب إنما 

ينطلقون في قناعتهم بالعلمانية على هذا النحو من أن مرجعيتهم الأولى في ذلك، 

وهي النص الجديد أو الإنجيل، هي نص تعرّض للتحريف، بما أدى إلى حرف الدين 

عن معناه الأصلي، أو عن حقيقته وعن دوره اللذين أرادهما الله له في الأصل. وهذا 

تحديداً، بحسب وجهة النظر هذه، ما أدخل أوروبا في عصور الظلام، ولم تخرج 

منها إلا من بوابة العلمانية.

هنا شيء من المفارقة، فإذا كانت العلمانية هي التي أخرجت الغرب من عصور 

الظلام إلى عصر النور، وإذا كانت العلمانية في الوقت نفسه هي رمز للكفر 

والإلحاد، 

فهذا يعني أن هذا الكفر، وذلك الإلحاد، وليس الإيمان، هما اللذان شكّلا معاً بوابة 

الخروج من ظلام الجهل المعرفي والتخلف والقمع الديني كأساس للقمع السياسي 

إلى رحابة العلم والوعي والحرية. هل يستقيم هذا مع منطق التحليل العلمي؟

هناك سؤال آخر: هل أن الكفر الذي تمثله العلمانية بالنسبة للمسلمين هو بمقتضى 

المعايير العقدية والفقهية الإسلامية كما يفهمها هؤلاء المسلمون؟ أم أن هذا الكفر 

هو بمقتضى المعايير ذاتها في المسيحية كما يفهمها أصحابها؟ إذا كان المعيار في 

الحال الأولى هو المنطلق والمرجع في الحكم، فمعنى العلمانية في هذه الحال، وما 

يترتب على هذا المعنى من انحراف عقدي، هو معنى محصور في حدود الفهم الذي 

ارتضاه المسلمون، وتواضع أغلبهم عليه للقرآن والسنة النبوية، وبما أنه محصور 

في هذه الحدود الثقافية، وضمن أطر النسبية المعرفية لمن يقول به، فإن هذا الفهم 

يكون طبق على العلمانية معايير واستدلالات من خارج سياقاتها التاريخية 

والثقافية 

والمعرفية. وهنا تبرز المغالطة، أي الحكم القيمي على ثقافة وتجربة تاريخية معينة 

وفقاً لمعايير وقيم تنتمي لثقافة وتجربة تاريخية مختلفة تماماً. وهذا يتعارض تماماً 

مع المنهج العلمي. بعبارة أخرى، التحليل والاستنتاج الذي أفضى إليه في هذه الحال 

هو تحليل ديني، وليس تحليلاً علمياً. وبما أنه كذلك، فهو تعبير عن تحيز ثقافي 

وأخلاقي ضد ثقافة وقيم أخلاقية مغايرة. وهذا طبيعي ومقبول ضمن هذه الحدود. 

لكنه ليس حكماً، أو استنتاجاً مبنياً على أسس ومنهج علمي. راجع (صحيفة 

«الحياة»، الأحد 3 تشرين الثاني / نوفمبر، 2013).

أما إذا كان المعيار في الحال الثانية هو المنطلق، وهو المرجع في الحكم، فينبغي 

عندها ملاحظة أن الكتاب المقدس الذي كان في عصور الظلام يعتبر أن تحالف 

الكنيسة مع الملك أو السيد إنما هو تعبير عن الإرادة الإلهية، هو الكتاب نفسه الذي 

لم يجد في العلمانية في العصور اللاحقة ما يبرر وصمها بالكفر والإلحاد. ومقتضى 

ذلك أنه كانت لهذا الكتاب قراءتان متناقضتان كل منهما تنتمي لعصر، ولمرحلة 

تاريخية تختلف عن الأخرى. أي هاتين القراءتين أصوب، وأقرب إلى منطق 

الأحداث 

والتاريخ من الأخرى؟ القراءة الثانية هي الأصوب لأنها تنطلق من بدهية أن النص، 

أي نص، بما في ذلك النص الديني لا يمكن أن يكون منغلقاً على قراءة واحدة. لهذا 

النص بحكم الطبيعة أكثر من قراءة. لم تكن هذه البدهية معترفاً بها في عصور 

الظلام. والعالم الإسلامي في أغلبه لم يعترف بها بعد.

انطلاقاً مما سبق يلوح في الأفق سؤال لا بد من إنزاله على أرض الواقع ومواجهته 

كما هو. هل أن مسألة فصل الدين عن الدولة، أو الدين عن السياسة، مسألة تخص 

التاريخ الغربي، أو التاريخ غير الإسلامي فقط؟ أم أنها مسألة اجتماعية سياسية 

تظهر في كل مجتمع إنساني بصيغ وأشكال مختلفة تعكس اختلاف الخصوصية 

التاريخية لكل مجتمع؟ من الممكن القول إن «العلمانية» هي الصيغة التي استقرت 

عليها هذه المسألة في المفهوم الحديث للدولة في الغرب وفي الشرق أيضاً. وأن 

هذه 

«العلمانية» ليست أكثر من صيغة من صيغ عدة للمسألة نفسها. وتبعاً لذلك من 

الممكن القول إن هذه الصيغة تخص تلك المجتمعات من دون غيرها، خصوصاً 

المجتمعات الإسلامية. لكن وتبعاً لذلك، فإنه ليس في التجربة الغربية، والعلمانية 

التي تمخضت عنها، ولا في خصوصية هذه التجربة، ما يفرض أن يستنتج من ذلك 

أن مسألة فصل الدين عن الدولة، أو تمييز الديني عن السياسي لا وجود لها، ولا 

معنى في تاريخ المجتمعات الأخرى، بما في ذلك المجتمعات الإسلامية.

طبعاً من المعروف أن مثل هذه الفرضية مرفوضة مسبقاً في العالم العربي.

 وأنا أقول 

العالم العربي لأن تركيا تحت حكم حزب إسلامي (العدالة والتنمية) منذ أكثر من عقد 

من الزمن تقبلت العلمانية، وباتت مهيأة بغالبيتها الإسلامية للتعايش معها. ويبدو 

أن هذا الحزب لا يرى أن هناك أي تناقض بين الإسلام والعلمانية. بل يرى إمكان 

تجسير الهوة المفهومية بينهما. وهذا على رغم أن هذه العلمانية فرضها أتاتورك 

ابتداء بالقوة والإكراه، وهي علمانية متطرفة تختلف في تطرفها عن العلمانية في 

الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال. من ناحيتها يبدو أن تونس أيضاً 

وهي في منتصف ربيعها تمضي في الخيار نفسه. وكان لافتاً ما قاله الأمين العام 

لحركة «النهضة» التونسية راشد الغنوشي في منتدى دافوس الأخير بالنص عن  

أنه لم يكن هناك مفر بعد الثورة من «تحالف بين العلمانيين والإسلاميين» كأساس 

للحكم الجديد في تونس. لا تزال التجربة التونسية في بداياتها الأولى، ولا بد من 

الانتظار مدة زمنية معقولة لرؤية مدى قدرة هذه المعادلة الجديدة على الصمود، 

وتحديداً مدى صدقية والتزام حركة النهضة بمشروعية وضرورة هذه المعادلة.

لا يمكن في هذا السياق تجاهل الشعار الشهير الذي يقول إن «الإسلام دين ودولة»، 

والمقولة الأشهر بأنه «لا كهنوت في الإسلام». كلاهما يرى أن الكهنوت المسيحي 

وتسلطه هو الذي فرض في الأخير خيار العلمانية كمخرج للغرب. وكلاهما يؤكد أن 

فصل الدين عن الدولة مناقض لروح الإسلام ونصوصه التأسيسية. هل هذا صحيح؟ 

وماذا عن التجربة التاريخية الإسلامية؟ هل كان فيها فصل بين الدين والدولة؟ أم 

أنها كانت خالية من ذلك تماماً؟

"خالد الدخيل أكاديمي وكاتب سعودي"
http://alhayat.com/OpinionsDetails/603817



*****************************************************
تحدثنا في المقال ما قبل الماضي ((العلمانية: كفر بواح أم بلسمُ جراح؟ (1-2) http://www.alsharq.net.sa/2014/01/26/1057977))
عن العلمانية بشكل نظري، وقمنا باستعراض المواقف إزاءها في فضائنا الثقافي المحيط، وبينا أن هناك ثلاثة مواقف نحوها: الرافض، المتوجس، والمتصالح المتبني لها. ثم ذكرنا أن إحدى الإشكالات التي تشوب العلمانية في ثقافتنا هي أنها غالباً ما تطرح خصماً للدين ونقضاً له. والحقيقة التاريخية تشير إلى أن العلمانية لم تأتِ خصماً للدين. كيف هذا؟ سنقوم باستعراض تاريخي يسير للحالة السياسية في أوروبا فيما يتعلق بحروبها المذهبية، ونحاول تتبع الكيفية التي عبرها انبجست فكرة العلمانية كأطروحة سياسية واضحة المعالم والتطبيق.
من أشهر الحروب المذهبية التي حدثت في أوروبا حرب الثلاثين عاماً وحروب فرنسا الدينية. حرب الثلاثين عاما (1618 و1648) كانت حرباً ضروساً قامت في وسط أوروبا، تحددياً ألمانيا والتشيك، مع أن الحرب شملت معظم الدول الأوروبية كالدنمارك وإسبانيا، والسويد وفرنسا. وبالرغم من أن الحرب تحوّلت في مراحل منها إلى صراعات دول، إلا أن السبب الأساس لاندلاع تلك الحرب كان الصراع الديني بين الكاثوليك والبروتستانت. يذكر مؤلف قصة الحضارة ديورانت أن هذه الحرب كلفت ألمانيا وحدها ما يقارب الستة ملايين وخمسمائة ألف قتيل، إذ تقلص عدد سكانها من العشرين مليوناً إلى ثلاثة عشر مليوناً ونصف المليون، وكذا فقدت التشيك ما يقارب ثلث سكانها في تلك الحرب، حتى خرجت دعوات تنادي بتعدد النساء للرجال من كثرة هلاك الرجال في تلك الحروب.
أما حروب فرنسا الدينية فقد امتدت ما يقارب الستة والثلاثين عاماً (1562-1598)، وكان أوارها أيضاً الشقاق المذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت. اندلعت في هذه الفترة ثمانية حروب دامية قضت على أكثر من مليونين من الشعب الفرنسي، معظمهم من البروتستانت. يذكر ديورانت أيضاً في قصة الحضارة مشاهد مروعة لما يمكن أن يحدث حين تتمكن فرقة مذهبية من أخرى، إذ ينتشر القتل في الشوارع، وتستباح دماء الرجال والنساء والأطفال بطرائق في غاية الوحشية والبشاعة. من ذلك ما حدث في مجزرة سان بارتيملي (1972) حين أمر الملك بقتل الهيجونوت (البروتستانت) فاقتحموا مقر زعيمهم كوليني فوجدوه يصلّي، فقام جندي بطعنه وشق وجهه، ثم شارك في طعنه جنود آخرون، ثم قذفوه من النافذة وهو لا يزال على قيد الحياة فسقط على الرصيف عند قدمي زعيمهم الكاثوليكي، وبعد أن تأكد القائد الكاثوليكي من موت كوليني أمر رجاله بأن ينتشروا في باريس ويذيعوا هذه العبارة «اقتلوا! اقتلوا! هذا أمر الملك». ثم قام بفصل رأس كوليني عن جسده وأرسله إلى اللوفر أو روما على اختلاف الرواية. أما جسده فسُلِّم للجماهير التي مثلت به بطريقة وحشية فقطعت يديه وأعضاءه التناسلية وعرضتها للبيع، ثم علقت بقية جسده من عرقوبيه.
هذه الفلاشات الدموية تذكرنا بالمشاهد البشعة التي تحدث بسورية حالياً، بين السُّنة والشيعة وداعش والنصرة. فعلى سبيل المثال، انتشرت بموقع التواصل الاجتماعي تويتر قبل أيام صورة لشاب صغير السن (ربما يقارب العشرين عاماً) وهو يبتسم لعدسة التصوير ممسكاً في يده اليسرى برأس مبتورة لرجل كث اللحية. صورة أخرى لرجل قد وسّد رجلاً آخر وشدَّ لحيته وهو يشرع في نحره كما تُنحر النعاج يوم عيد الأضحى.
هذا يعني أن الأسباب التي أدّت إلى نشوب هذه الحروب، على الرغم من الفارق الزمني الهائل بينها (قرابة الأربعمائة عام) متماثلة، اختلافات مذهبية. كما أن صور القتل وإهلاك الآخر متقاربة أيضاً (قتل بتطرف في البشاعة والتنكيل). وإذا تشابهت الحيثيات والأعراض فهذا يعني أن الحلول أيضاً قد تتشابه. والسؤال الذي يطرح أمامنا الآن. كيف انتهت تلك الحروب المذهبية في أوروبا.
انتهت الحرب الدينية الفرنسية التي سبقت حرب الثلاثين عاماً من خلال اعتماد مرسوم تسامح وهو مرسوم نانت (1598). ينص المرسوم على حرية العبادة والعقيدة، والمساواة المدنية للبروتستانت مع الكاثوليك، وتوفير الضمانات القضائية بموجب الدستور. وعلى الرغم من أن هذا المرسوم لا يعد مرسوماً متكاملاً من حيث توفير أجواء الحرية الدينية القائمة على أساس متساوٍ، إذ بقيت السلطة العامة بعد ذلك المرسوم تحت الكاثوليك، إلا أنه يعتبر من أول السياسات التي خرجت إلى النور لتحقيق مناخ من التعايش الديني بصيغة رسمية.
ثم جاءت نهاية حرب الثلاثين لتمثل تطوراً آخر في قضية التعايش المذهبي عبر صلح وستفاليا (1648) الذي أرسى نظاماً جديداً في أوروبا مبنياً، لا على التمايز المذهبي، وإنما نقله خطوة إلى الأمام ليأتي بمبدأ سيادة الدول وفكرة المواطنة. وهذا يعني أن هناك تحولاً في تشكل الهوية لدى الفرد الأوروبي وتغييراً في انتمائه من فكرة المذهبية إلى فكرة المواطنة. كما يمكن النظر إليه على أنه أول لبنة لنهاية السيطرة اللاهوتية في أوروبا، وبداية عصر العلم والمنطق القائم على التجربة والبرهان لا على المزاعم والأساطير الدينية.
ثم تتالت المحاولات الفكرية في أوروبا الرامية إلى حل الأزمة المذهبية بشكل جذري وخلق مجتمعات تنعم بالسلام، بعيداً عن تلك الحروب المذهبية الوحشية، حتى جاء مصطلح العلمانية على يد الكاتب الإنجليزي هوليوك Holyoake عام 1851 كتتويج لتلك المحاولات. تجدر الإشارة إلى أن هوليوك ذاته أشار إلى أن العلمانية تعني تأسيس مجتمع مدني مستقل عن الدين دون أن يعني ذلك نقض الدين أو نقده.
من اللافت للانتباه أن هناك أصواتاً عاقلة من المؤسسة الدينية جاءت لتنادي بتبني الحلول، ولو بشكل جزئي، التي توصلت أوروبا لها قبل قرون من الزمن. فالشيخ الكبيسي رئيس جمعية علماء العراق خرج لنا ليقول من بداية الأزمة العراقية بعد رحيل صدام «نحن لا يجب أن نجعل دين الدولة على مذهب واحد، نريد دولة شعبها مسلم يتمتع بحريات كاملة دون أن تمثل طائفة بعينها». (جريدة الرياض، 8/ 5/ 2003).
عوداً على الحالة في سوريا والعراق واليمن، إذا كان الأوروبيون قد عانوا وضحوا كثيراً وخسروا ملايين الرقاب من أبنائهم حتى توصلوا إلى دساتير أصيلة لحل المشكلة المذهبية وحقن الدماء بعد عقود من التطاحن المذهبي، فهذا يعني أن النظر إلى تلك الدساتير قد يفيد العرب كثيراً في الإسراع إلى الحلول ووقف شلالات الدماء المراقة باسم الدين. قد يرى زعماء داعش والنصرة وغيرهم من زعماء المذاهب الإسلامية المتحاربة أن مصطلح العلمانية صنيعة غربية من رحم مسيحي. إن يك ذلك، فليأتوا لنا بآلية من الرحم الإسلامي، تمنح الحق لأي إنسان في تلك الدول أن يعتنق المذهب الذي يشاء دون مصادرة رأسه، خصوصاً أن تراثنا زاخر بالنصوص التي تكفل حق الحرية الدينية وتؤسس لمفهوم التعايش حيال هذه القضية. المهم أن يتوقف سفك الدماء.


******************************************************
ما يسمى ب "الربيع العربي" وكيف تم استغلاله خارجيا وداخليا لتحويل مساره واهدافه !!؟

ما يحدث للشعب السوري حالياً يُعد فتنة شعواء من أشد الفتن التي عصفت بالمنطقة ربما منذ مئات السنين. فتنة لم تعد تعرف فيها الظالم من المظلوم، الحاكم من المحكوم، مَنْ يقتل مَنْ ولماذا. لم تعد انقساماً بين شعب يبحث عن حريته من نظام قمعي شمولي، وإنما تجاوزت ذلك لتصبح حرباً مذهبية بين السنَّة والعلوية، ثم انقسمت مرة ثالثة لتكون بين السنَّة والشيعة، ثم انفلقت مرة رابعة لتكون بين السنَّة والسنَّة (داعش والنصرة). إذن نحن أمام حرب عمياء مؤلفة من عدة دوائر وطبقات متراكبة ومتداخلة. أمام هذه التعقيدات منطقياً تتباين الآراء وتتضارب المواقف حيالها، لكن هذه المواقف يمكن أن تفسر بشكل منطقي، إلا منطق واحد.
منطقياً يمكن أن نجد من يدعم داعش والنصرة بشكل علني وصريح ويدعو إلى الذهاب من أجل القتال معهم، على اعتبار الاشتراك المذهبي. وعلى الرغم من وقوفي ضد هذا الموقف، إلا أنه يبدو رأياً يمكن فهمه منطقياً لعامل الشراكة الأيديولوجية. منطقياً أيضاً يمكن أن نرى نقيض الرأي الأول ومن يصرح بعدم الذهاب للقتال هناك، ويدعو لعدم التدخل إما لأنه يراه شأناً داخلياً أو أنها حرب بين طائفتين مسلمتين، وهذا أيضا رأي يمكن فهمه وتقبله منطقيا. قد نجد فئة ثالثة تلتزم الصمت، لتعقُّد الظروف وضبابية الصورة واختلاط الحابل بالنابل، والصامت في شأن كهذا لا تثريب عليه أو عتب.
لكن الشيء غير المنطقي هو أن يخرج أمامي رجل يحث على الجهاد ويشجع على النفرة، ويسرد أمام أعيننا الآيات والأحاديث الدالة على فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، ثم حين يسأل بشكل واضح ومحدد: هل تقصد الجهاد في سوريا؟ يجيبك بكل ثقة، طبعا لا! إذن ماذا يقصد أخونا الفاضل: الجهاد في أفغانستان؟ أم في فلسطين والشيشان؟ أم إنه يتحدث عن الجهاد في كوكب آخر؟ أو ربما يتكلم عن الجهاد ويريد المشاهد أن يفهم بأنه يتحدث عن الطب والهندسة؟ كيف تكون سوريا هي قلب الحدث وحديث الساعة عن الجهاد ثم يأتي أحدهم يدبج الموشحات في فضل القتال والنفرة، وحين يسمع امرأة تبكي على فلذة كبدها المقتول هناك، يجيب بدم بارد، لم نحرض أحدا. يستدرك الآخر بنبرة ذكاء خارق، ربما لم تكُ تلك المرأة المفجوعة على فلذة كبدها إلا صوتاً مستأجراً. ألا يعرف هؤلاء القوم شيئاً من أبجديات البلاغة العربية؟ ألم يقرأوا عن التورية والكناية في علم المعاني بكتب البلاغة؟ ألا يعلمون أن مدح شيء والثناء عليه تترتب عليه منطقياً الموافقة والتحريض والمشاركة فيما تم فعله والقيام به.
أحدهم بدأ هذه الربكة المنطقية حين أمضى قرابة النصف ساعة وهو يتحدث عن الجهاد وفضله وعرج على نصوص الكتاب والسنة ثم اقتطف لنا شيئاً من مقتطفات التاريخ وطرزها بشيء من الشعر والأدب حول شرف الجهاد وفضله. تحدث بحماس وأسهب بإخلاص حتى شككنا أنه قد امتشق سيفه وودع أهله وقطع تذكرته ليغادرنا بعد البرنامج مباشرة إلى ثكنات الحرب. وحين قيل له هل أنت بعد هذا التنظير كله تؤيد الجهاد في سوريا؟ أجاب بأنه في واقع الأمر ينصح بعدم الذهاب!
أما الآخر فجاء ينفي تحريضه على القتال وكأنه لم يفعل شيئاً، وحين جابهه المذيع بأنه وقع على وثيقة وجوب النفرة بالنفس، أجاب بأنه ليس وحده في تلك الوثيقة وأن هناك علماء من باكستان وسيريلانكا وبنغلاديش واليمن والخليج، وصل تعدادهم إلى أكثر من 500 عالم، جميعهم صرحوا بوجوب النفرة. ثم طفق يخبرنا بأن العلماء يحق لهم الاجتماع كما يحق للسياسيين الاجتماع، ولا أدري ما علاقة كل هذه التفاصيل بصلب السؤال الذي وجه إليه؟ أخيرا وبشكل خجول حاول التعليل بأن موافقته كانت لأنه كان فرداً من عدد هائل. والمنطق يقول إنك حين توافق على أمر ما، فأنت مسؤول عن قرارك، وليس الذين إلى جوارك مهما كان تعدادهم، إلا إن كان من قوم «مع الخيل يا شقرا».
والعذر الذي يعلقون عليه هذا التلون هو عذر «التقعيد غير التطبيق»، وهي قاعدة فقهية عامة لكن لها ضوابطها التي اخترقوها. أول هذه الخروقات هو عدم حرص هؤلاء القوم على التفريق بين التقعيد والتطبيق في بدء حديثهم؛ إذ أسهبوا في التنظير للجهاد وفضله والحث عليه دون استدراك بالتفريق بين التنظير والتطبيق إلا بعد أن جوبهوا بسؤال مباشر وصريح عن رأيهم في القتال بسوريا بشكل مباشر. أي أنهم لو لم يسألوا هذا السؤال المباشر لربما تركوا الأمر على عموميته بحيث يفهم من يود الذهاب لسوريا أن هذا رأي الدين وإرادة الشرع. كما أن اختلاف التطبيق يأتي غالبا في التفاصيل العامة التي توضح عمومية ذلك التقعيد، لا بهذه الصورة المتضاربة، التي أولها حثٌ على القتال وآخرها نهي عن الذهاب إليه.
من المهم أن أؤكد هنا أن الهدف في هذا المقال ليس الخروج بحكم محدد حول هذه الفتنة السوداء، وإنما لتركيز الضوء على إشكالية من أكبر إشكاليات الخطاب الصحوي المعاصر، إشكالية التقلب وأزمة التلون. مشكلة استخدام الفصاحة والرطانة المطعمة بنصوص مقدسة لتزييف وعي الجماهير والزج بهم في قضايا بالغة الخطورة. وإذا عاب كثيرون على أحد المتطرفين الذي خرج في أحد البرامج إشكالية الإرهاب والتطرف، فإنه قطعا ماز عن هذه الفئة بخصائص يفتقدونها: الوضوح والثبات والمصداقية.

http://www.alsharq.net.sa/2014/02/09/1069968

******************************************************




*****************************************************
كان القرن الثامن عشر كما وصفه توماس بين هو عصر العقل، وهو كما نعرف جميعا قرن التنوير الأوروبي. وكان فولتير رجل هذا العصر يؤكد قائلا: "اليقين هو حال منافٍ للعقل". والجمود هو نتاج اليقين، واليقين هو ابن الجهل؛ حتى وإن تراءى أنه ابن العلم، لأنه حينئذٍ سيكون ابن القراءة الواحدة المنغلقة على نوعها، ومن ثم المنغلقة على يقينها الوهمي الذي يتصور أنه أحاط بالحقيقية/ كل الحقيقة من أطرافها، بينما هو في أحسن أحواله لم يلمح إلا أشباحها من بعيد. 

لم ولن يكون طريق التغيير الإيجابي سهلا، لا من حيث استعصاء شروط الواقع ولا من حيث تأبّي شروط العقل؛ لأن العقل لا يشتغل تعقّلا إلا على خلفية فعاليات معرفية هائلة في مستويين: النوعي والكمي. والواقع الذي هو موضوع الفعل، لا تستجيب شروطه إلا لمن يفهمه (الفهم شرطه الأولي المعرفة العقلية) بقوانينه التي تتحدد من خلال الواقع ذاته، ويسعى لتغييره من خلال العمل على استثمار هذه القوانين وتطويعها؛ لتتحق الضمانة النسبية المتمثلة في التأكيد على أن ما نمارسه كفعل معرفي هو كذلك حقيقة (أي مشروط بنظام العقل وبنظام الواقع في آن)، ومن ثم فهو قادر على إحداث التغيير الإيجابي الذي هو الأمل الواعد؛ كيما نستطيع الانعتاق من قبضة أزمنة التخلف والانحطاط التي تُحاصرنا منذ قرون. 

طبعا، ليست العلاقة علاقة مطابقة بين شروط معقولية العقل وشروط تعقّل الواقع، ليست مباشرة، ولا متزامنة بالضرورة. صحيح أنها علاقة جدلية تفاعلية، ولكنها في جوهرها عملية معقدة، لا تسير على وتيرة واحدة، ولا في اتجاه واحد، ولا على قاعدة واحدة. ومن هنا فهي تركيبية، نسبية، تناقضية في كثير من الأحيان، بحيث لا تستوعبها إلا الكليات الفلسفية التي لا ترى في تبسيط الواقع إلا كارثة تُنذر بتدمير الواقع، كما هو الحال في تبسيط العقل. 

يقول ويل ديورانت: " أطول خط بين نقطتين في الفلسفة، كما في السياسة، الخط المستقيم". وذلك أن ما نراه مستقيما ليس مستقيما في الحقيقة، بل هو اختصار مخل يجتاوز كثيرا من الشروط التي تحكم مسيرة التعقّل في الفلسفة (وبدونها لا فلسفة!)، كما تحكم مسيرة الفعل الإيجابي في الواقع (وبدونها لا واقع يثري الوجود الإنساني). فالفلسفة كي تضمن صياغة الأنماط العليا للتفكير على أكمل وجه ممكن، لا بد أن تأخذ في الاعتبار كل صور التناقض والتنوع داخل نظام العقل، كما أن السياسة بطبيعتها تأخذ كثيرا من التفاصيل المتناقضة على محمل الجِدّ، وقد تبني عليها أحكاما وأفعالا سياسية، تبدو لعين المراقب من الخارج متحررة من الواجب/ الوضوح/ الخط المستقيم، وهي ذات العين التي تعمّم في السياق المعرفي/ الفلسفي الجزئي على الكلي الذي لا يقبل الاختصار، ومن ثم لا يقبل المباشرة ولا الخط المستقيم. 

كي نتطور، يجب أن نفعل أكثر؛ لنتجاوز ذواتنا/ واقعنا، ولكن ليس أي فعل هو الذي يجتاز بنا، بل هو تحديدا : الفعل الإيجابي. وكي نتوفر على أكبر قدر من الإيجابية في الفعل، يجب أن نتوفر على أكبر قدر من الفهم. والفهم كحالة وعي ذات طابع شمولي لا يتوفر بصورة مجانية، بل لا بد من القراءة/ القراءات التي تجمع بين النوعية والكمية، وذلك في سياق برنامج قرائي صارم، تتوسع دوائره تبعا لطبيعة الاهتمام. 

لا يمكن أن يحدث تغيير نوعي/ إيجابي في الواقع؛ ما لم يكن هناك تغيير نوعي/ إيجابي في العقل. وهذا التغيير النوعي في العقل لا تُوفره القراءات المبتسرة التي تريد أن تأخذ المعرفة (من حيث هي ممارسة عقلية شمولية) بعبثية، أي كما تأخذ المعلومة المجتزأة من سياقها الكتابي ومن سياقها المعرفي، بل ومن سياقها الجغرافي والتاريخي أحيانا. 

اليوم تُقدِّم وسائط المعرفة ذات البعد الجماهيري كَمَّا هائلا من المعلومات، ولكنها لا تقدم معرفة؛ لأن شروط المعرفة متضمنة في السياقات، لا في المعلومات، أي في النظام الذي يُفسر المعلومة ويُبرّرها، أي يتعقّلها في الواقع من حيث هو يمنحها المعنى. ولا شك أن استسهال المعرفة على هذا النحو العبثي الذي يُتاجر ماديا ومعنويا بالمعلومة المبعثرة هو سبب هذا الاستشراء للامعقول في سياق وعينا العام. 

إن الكتاب/ النص الذي يشتغل على سياق معرفي محدد، هو بالضرورة بُنيَة عقلية، وهذه ذات مضامين قد نتفق معها وقد نختلف، ولكنها في النهاية تبقى محاولة تعقّل للواقع من خلال تعقّل معطيات الواقع (= المعلومات) بانتظامها فيما ينتج معانيها في وجودها الكلي، الذي هو وجودها الواقعي؛ لأن المعلومة قبل أن تكون جزئية/ مُجتزأة/ مستقلة هي وجود منتظم في الواقع، بل تبقى وجودا منتظما في الواقع حتى بعد أن يجتزئها الفكر، ويضمن لها وجودها على مستوى الاستقلال العلاماتي (= انعكاساتها في نظام اللغة/ العلامات). 

ولا يعني اشتراط التعقل بالكتاب/ النص أن يُشترط نوع معين من الوسائط، كأن يكون ورقيا أو إلكترونيا، كما لا يشترط أن يكون بحجم معين، إذ المُهم أن يكون (نصا) يتوفر على شروط الاتساق الداخلي (= بُنية المعقولية )، وعلى شروط الاتساق الخارجي، سواء في سياق نظرية المعرفة العامة، أو في سياق الواقع العملي من حيث هو فعل معرفي مندرجة في صيرورة تاريخ. 

إذا كان القرن الثامن عشر الميلادي هو بالنسبة للغرب قرن التحوّل من زمن إلى زمن آخر مغاير/ مختلف، فما ذاك إلا لأنه القرن الذي تحررت فيه المعرفة من هيمنة الكهنوت بواسطة نضال المفكرين العظام الذين حاربوا هيمنة الكهنوت الانغلاقي الكنسي، حاربوه على أكثر من صعيد معرفي، بل وعلى مستوى الفعل الواقعي في كثير من الأحيان. 

كان القرن الثامن عشر هو قرن التغيير بحق؛ لأنه القرن المفصلي الذي تم فيه فتح مغاليق المعرفة، والفصل بين مرحلتين: مرحلة الماقبل وبعد المابعد، وذلك حين تحقق الخروج علانية (طبعا، من قبل ذلك كان ثمة خروج بين الحين والآخر، ولكنه خروج نادر ومعزول وخائف مستتر لا يقوى على المواجهة) على مشروعية الفكر الأحادي الذي تحتكر الكنيسة ورجالها مفهوم صوابيته، ولا ترى المعرفة خارج هذا الادعاء الصوابي إلا بوصفها جهلا وتشويها، أو هرطقة وإلحادا يستحق صاحبه أن يحرق بالنيران حيّا، جزاء له وردعا لأمثاله من الفلاسفة المهرطقين الضالين الذي يقترفون جريمة: الانفتاح المعرفي والتفكير الحر المستقل بلا قيود، إلا قيود العقل المفتوح على التنوع اللامحدود! 
كان رجال الكهنوت، ومن ورائهم طبقة النبلاء يدركون خطورة أي تغيير يحدث في مستوى الوعي؛ لأنهم يعرفون أنه في حقيقته تغيير في الواقع؛ ولو بعد حين. وبما أن الواقع قد تمَّ بناؤه على صورة تستجيب لشبكات الاستغلال التي يديرونها فيما بينهم، فإن أي تغيير في هذا الواقع يعني أن مصالحهم مهددة بالخطر المباشر. ومن هنا كان استبسالهم في سبيل الابقاء على واقع الجهالة، وإصرارهم المُتعنت على استمرار فعل التجهيل. 
لقد راهن الفلاسفة العظام، من ديكارت إلى فولتير، مرورا باسبينوزا، وجان جاك رسّو، وديدرو، وباسكال... إلخ المناضلين في سبيل إرساء قيم العقل، على العقل/ الوعي قبل أي شيء آخر، وقد كسبوا الرهان. ومن المهم التأكيد على أن سلاحهم في التغيير هو الكتاب أو المقال المطوّل الذي يتعمد برمجة الوعي، وليس المعلومة المجزأة المبتسرة التي كان من الممكن أن تنتشر بأي طريق كجمل عابرة في وعي عابر. ولهذا أخذ التيار المقابل لهؤلاء الفلاسفة يحارب الكتاب النوعي أشد ما تكون الحرب، فمرة يُصادر، ومرة يُحرق، ومرة يُحذّر ويُحرّم، ومرة يُهدد الناشر، وفي أحايين أخرى يُهدّد الكاتب بالقتل بأبشع صور القتل، أو أحيانا بما دون القتل من سجن، وتعذيب، ونفي، وفصل وظيفي... إلخ صور الاضطهاد التي كان يُراد منها الحد من انتشار المؤلفات الفكرية التي تنقض الرؤية التقليدية وتتسبب في انهيارها من أصولها، ومن ثم في انهيار الواقع التقليدي المبني على الاستغفال والاستغلال. 

المعرفة الحقة ليست ترفا، ليست عملا سهلا، ليست فعلا مُسالما، بل هي نضال عنيف ( بعنف/ قوة المعرفة طبعا) ضد كل جَهالة تتلبس الوعي، وضد كل ظلامة تتلبس الواقع. ومن هنا فهي ممارسة خطرة؛ لأنها إن كانت معرفة بحق ممارسة في التغيير النوعي الذي يعني تجاوز الراهن. ومعروف أن تجاوز الراهن لا يكون إلا بنقضه، ابتداء من نقضه كمُتَصوّر ذهني على مستوى الوعي/ البناء الرمزي، وانتهاء بتجريف الواقع، وإعادة بنائه من جديد على ضوء ما يقتضيه التصور المعرفي الجديد. 

إن أية معرفة تطمح إلى التغيير، لن تكون معرفة مختصرة/ مجتزأة، احتازها صاحبها بقراءة عشرين أو ثلاثين كتابا. هذه ليست أكثر من معرفة اطلاع وتسلية، لا تحرك ساكنا، بل ولا تسكّن متحركا. المعرفة التي تطمح للتغيير هي المعرفة التي تحاول في حدود الطاقة البشرية طبعا أن تستوعب الخطوط العريضة للمعرفة الإنسانية، وخاصة المعرفة التي تُعنى ب(الواقعة الإنسانية )، و ب(الواقع الإنساني) من حيث هو واقع مشروط بالتاريخ. 

يعرف كل مهموم بشؤون المعرفة أن استيعاب هذه الخطوط العريضة للمعرفة الإنسانية، والغرق في بعض تفاصيلها تبعا لدائرة الاهتمام، هو عمل يتجاوز قراءة الكتب بالعشرات أو بالمئات إلى القراءة بالآلاف. فهناك مئات الكتب التي يجب استعراضها واستيعاب مقولاتها الأساسية قبل ادعاء الوعي بمجالها/ موضوعها، خاصة وأن كل مجال/ موضوع له مجالات متاخمة لا يسع الجهل بها، بل يستلزم الأمر تدعيمها بقراءة محايثة لعشرات الكتب التي تخدم بعض جزئيات الاهتمام. 

أزمتنا هي في الجهل/ جهلنا الذي لا نريد الاعتراف به. وهذا الجهل ناتج بلاشك عن استسهال المعرفة، والاستهانة بالتقصي العلمي الذي يستلزم قراءة آلاف الصفحات في بعض التفاصيل حتى يستطيع الإنسان البت فيها برأي. فمثلا، تجد من يعتقد أنه يعرف كل شيء عن الشيعة والتشيع تاريخا وواقعا لمجرد أنه قرأ عشرة كتب أو حتى عشرين كتابا. والأشد كارثية أنها قد تكون كتبا تعكس وجهة نظر واحدة. ومع هذا يدعي صاحب هذه القراءة الهزيلة جدا أنه يستطيع إصدار شتى الأحكام المعرفية على تاريخ طويل يمتد بامتداد أربعة عشر قرنا، وعلى واقع إنساني يتجاوز عدده المئة وخمسين مليون نسمة، وكل ذلك من قراءة عشرين أو ثلاثين كتابا يستنسخ بعضها بعضا، كما هي العادة في الهجائيات المذهبية المبنية على ترديد الشعارات، أكثر مما هي مبنية على فحص المقولات، فضلا عن فحص علائقها الجدلية بالواقع قديما وحديثا، وهو الفحص الذي لا وجود له في مثل هذه الرؤى والتصورات التي لا تعدو أن تكون محض خيال. 

كذلك الحال فيمن يريد الحكم على تيارات أو جماعات أو أحزاب عريقة في تاريخها الممتد لعشرات السنين، ولها نِتاجها المكتوب الذي قد يتجاوز عدد المؤلفات منه خانة المئات إلى خانة الألوف، فضلا عن مئات الكتب التي كتبت عنها ولها، والتي تختلف في تقييمها تبعا لاختلاف وجهات النظر. فكيف يصدر أحدهم رأيه/ حكمه في مجال لم يقرأ فيه ما يتجاوز 1% من المنتج فيه على أفضل تقدير؟! 

إن انتكاسة ما يُسمى ب (الربيع العربي)، أو موجة الاحتجاجات الغاضبة؛ كما أسميها، ليست مستغربة إلا عند من يقرأها خارج أزمة الوعي الناتج عن الفقر المدقع في القراءة في عالمنا العربي. فمع أن هذه الاحتجاجات كانت ترفع شعارات الحرية والديمقراطية، إلا أنني، ومن خلال استماعي لتصريحات كثير من الذين قادوها بالفعل، أو الذين تصدوا لقيادتها، أجزم بأنهم لم يقرأوا في فلسفة الحرية، ولا في فلسفة الديمقراطية، ولا في مسألة مدنية الدولة، بل ولا في مفهوم الدولة أصلا، وأن قراءاتهم في هذه المحاور لا تتجاوز إن وجدت بضعة كتب، وأحيانا بضعة مقالات قد تشوه الموضوع وتربكه أكثر مما تضيئه وترسم معالمه. ولهذا كانت الاحتجاجات فعلا غاضبا تخبّط في ارتياد ما يعشقه من حرية وديمقراطية، إذ لم يكن بأي حال على وعي، لا بالحرية ولا بالديمقراطية ولا بشروطهما، لا في عالم الفكر ولا في عالم الواقع. ومن هنا كانت الانتكاسة بادية منذ البداية، حين بدا واضحا أن المحتجين لم يقطعوا مع رموز الاستبداد الكهنوتي، بل الأنكى أنهم استعانوا بهم، وقدموهم أحيانا كقادة! فلم يقطعوا حينئذٍ مع رموز الاستبداد السياسي حقيقية رغم ادعائهم أنهم قطعوا؛ لأنهم لم يقطعوا مع وعي الاستبداد الكامن في منطق الكهنوت. 

لن يحدث أي تغيير في عالمنا العربي في المستقبل القريب، لأننا إلى الآن لا تزال المعرفة القادرة على إحداث التغيير مُهَمّشة في عالمنا العربي الذي تُراوده أحلام الحرية والديمقراطية من أكثر من قرن ولا تزال. وهي أحلام لا يمكن أن تتحقق في مجتمعات غير معرفية، اي مجتمعات تقع المعرفة منها في أدنى سلم الاهتمامات، بدليل الكتاب لا يزال لديها أخطر من المسدس، فهو يخضع للحجب والمنع والتفتيش، بل ويخضع لما هو أخطر، حيث الازدراء عمليا به، هذا الازدراء الذي يتأكد واقعيا عندما يأتي الإنفاق عليه فرديا ومجتمعيا بتقشف ظاهر، مقارنة بالإنفاق الباذخ المبذر على (الأحذية) التي باتت تفوق قيمتها الشرائية أفضل كتاب، وربما تجاوزتها بأضعاف! 

نحن الآن مقبلون على معرض دولي للكتاب، لا يتكرر إلا مرة واحدة كل عام، ولكنه يأتي بلا دعاية شاملة، وبلا إعلان يوازي حجم الإعلان عن المنتجات الثانوية الترفيه التي باتت بفضل الضخ الإعلاني تحظى باهتمام الملايين. بل يحدث ما هو أعمق في الدلالة على مأساوية الواقع المعرفي، إذ تنشط الدعايات المناهضة للانفتاح النسبي في المعرض بأشد مما تنشط الدعاية الإيجابية للمعرض؛ لأن أعداء المعرفة/ أعداء التغيير يدركون حجم الأثر الذي تتركه القراءات النوعية على العقول، ومن ثم على الواقع، بأكثر من إدراك هُواة المعرفة لهذا الأثر. ولهذا لا ينشطون للدعاية له، بقدر نشاط التيار المناهض للمعرفة، على اعتبار أن الدعاية في تصورهم مجرد تجييش عاطفي، وأن المعرفة في موقعها الموقر لا تحتاج لمثل هذا التجييش، أي على افتراض أن عشاق المعرفة يعرفون قيمتها قبل أي أحد آخر. بينما الحقيقة أن عشاقها يحتاجون لمزيد من العشق الذي تخلقه أجواء الطرب الإعلاني، فضلا عن احتياج ذوي القلوب الخالية إلى من يوقعهم في شبكات الحب المعرفي ليكونوا شركاء في احتفالية الغرام أو الاستغرام. 

إن المعرفة بقدر ما هي فعل عقلي في الأساس، تحتاج في كل حالاتها لأجواء وجدانية تستحثها، أجواء تشعل جذوة الاهتمام كلما خفتت أو أوشكت على الخمود. من المهم خلق حالة حب وجدانية للمعرفة (بوسائل شتى، ومنها الوسيلة الإعلانية التي تخلق الانفعال بها) ؛ حتى ندخل بقوة في عالم المعرفة ونحتل موقعا في هذا العالم الذي لا نزال للأسف متطفلين عليه. وقديما قال الفيلسوف الألماني العظيم هيجل: "ليس هناك شيء عظيم حققه البشر دون وجد أو انفعال".

مـحمد بن علي المحمود
جريدة الرياض
13/2/2014م