السبت، 31 أكتوبر 2015

خلاصة تجربتي مع التدين الذي كاد يجعلني إرهابياً

هذه المقالة التي صاغها المفكر الرائع "محمد علي المحمود" لخّصت تجربة صاحب هذه المدونة المتواضعة عندما جرفته ما يسمونها
 ( الصحوة الإسلامية ) أثناء حرب أفغانستان : 
    
ليس شرطا أن تكون متشددا؛ لتكون إرهابيا. يكفي أن تعيش في فضاء عام يصنع المتطرفون المتشددون توجهاته الكبرى التي تتواشج فيها البُنى العقائدية التأسيسية مع النزعات العاطفية الجامحة. وعندما تكون مراهقا - أو كمراهق – في رؤيتك الأحادية والمثالية للتاريخ وللواقع؛ يسهل استغلالك؛ ))




لا أحد يقرر أن يصبح إرهابياً منذ البداية. لا أحد يقرر أن ينتقل من طبيعته المسالمة إلى ممارسة القتل بأبشع صوره في لحظة إشراق معرفي أو روحي. قرار التحول من حالة (الإنسان الطبيعي)، إلى حالة (الإنسان الإرهابي) ليس قرارا واعيا في كل مراحله، بل هو قرار انسيابي، يبدأ متدرجا؛ ليمر بمراحل من التحولات الفكرية والنفسية، التي تبدأ بشكل من التدين الطبيعي، ثم التشدد الديني، ثم الاندماج في خطاب التحريض نتيجة الاستعداد المسبق الذي يضع الأرضية لهذا الاندماج، إلى أن يصل الفرد إلى تفجير نفسه في الأبرياء، أو – إن كان أقل شجاعة - إلى العمل الميداني لنقل الأبرياء من حالة البراءة الدينية إلى حالة الإرهاب.
ثمة جدل كبير حول دور (مقولات التكفير) في العمل الإرهابي: هل هي دوافع أولى للفعل، تسبق الفعل، أم هي مبررات لاحقة؟
أيا كان الأمر، فلاشك أن العلاقة هنا جدلية/ تفاعلية، فمقولات التكفير تدفع؛ بقدر ما تبرر، والأهم، أنها تصنع بيئة مجتمعية غير سوية، تنقل الإرهاب من فضاء الجريمة المدانة اجتماعيا ودينيا، إلى فضاء الفعل المقدس المشرعن دينيا واجتماعيا.
ومن المعلوم أن تغذية الإرهاب بالموارد البشرية والمادية هي ما تُبقي جذوة الإرهاب حيّة على مدى سنوات طوال. وطبيعي أن هذه التغذية لا تحدث في مجتمع ينظر إلى الإرهابي بوصفه إنسانا منحرفا/ ساقطا على مستوى الأفكار والسلوك، ولا في مجتمع ينظر إلى فكر التكفير بوصفه انحرافا دينيا يستحق مُروّجه النبذ والتهميش، بل والتبليغ عنه ليكون في مكانه الطبيعي مع عتاة المجرمين من القتلة والسرّاق ومروجي المخدرات ومنتهكي الأعراض.
أعود لما بدأت به أولا، وهو أن الشاب لا يقرر – إذ يقرر التدين – أن يصبح إرهابيا. الحالة المرضية التالية تبدأ طبيعية أو شبه طبيعية. الواجهة الأولى لحالة التدين التي يتم استقطاب الشاب إليها لا تشي بالعنف ابتداء. المطلوب في البداية شيء جميل، المطلوب فقط، أن تصبح ملتزما بفرائض الدين الأساسية من صلاة وصوم وزكاة، وأن تبتعد عن المحرمات الأساسية، خاصة المحرمات المرتبطة بالانحراف السلوكي. وهذا ما يجعل كثيرا من العائلات تفرح بتدين أبنائها فترة المراهقة؛ لأنها تعتقد أنها بهذا التدين تضمن استقامتهم، وتطمئن إلى أنهم سيصبحون رجالا أسوياء في المستقبل القريب، ينفعون أنفسهم، و- بتأكيدات التدين على البرّ – سيصبحون أكثرا برا بوالديهم؛ فلا يذهب استثمارهم في هؤلاء الأبناء هدرا (على اعتبار أن الإنجاب في السياق العربي مجرد مشروع استثمار!).
إلى هنا، والوضع طبيعي، بل هو المطلوب عقلا ودينا. لكن، لا يتوقف القائمون على تديين الشباب (وهم في الثلاثين سنة الماضية: سدنة الخطاب الغفوي وكوادرهم العاملة في الميدان) عند هذا الحد الطبيعي؛ لأنهم لا يريدون في الحقيقة شيئا طبيعيا. ولتجاوز الحد الطبيعي؛ يقوم العاملون في ميدان التديين بزيادة الجرعة، وذلك بالتشديد وتوسيع دائرة المحرمات، واختيار أشد الأقوال فيها، وترميز أصحاب هذه الفتاوى المتشددة؛ بحيث يصبح الشاب لا يقبل إلا منهم، وفي المقابل يعد العلماء الذين يختارون التيسير (ويجنحون إلى الإباحة فيما لم ترد فيه نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة) مجرد وعاظ من الوزن الخفيف، بينما يعد دعاة التشدد علماء ربانيين مخلصين ومتبحرين في علوم الدين.
في هذه الأثناء التي يتحول فيها الشاب إلى الفقهيات المتشددة، ينقله دعاة الغفلة من تدينه الخاص إلى مسؤوليته عن التدين العام، ثم إلى مسؤوليته عن عموم أحوال المسلمين، كل المسلمين. يشحن هؤلاء الوعاظ الغفويون عقل الشاب وروحه بأمجاد أمته، ويحملونه مسؤولية إصلاح عشرة قرون من الأعطاب الكبرى التي أضاعت ذلك المجد التليد، ويضعون أمامه كل مأساة للمسلمين في كل العالم؛ لكي يسهم في حلها بشكل مباشر؛ وإلا أصبح خائنا للإسلام والمسلمين.
هنا، يقع الشاب في قبضة إيديولوجيا الحراك المتأسلم، هنا يصبح كادرا عاملا من حيث يشعر أو لا يشعر، وينتقل من حالة التدين الطبيعي، إلى حالة الاستنفار الذهني والروحي لتغيير مسار التاريخ. المهم هنا، أن هذا الانتقال الخطير من الخاص على العام لا يتحقق إلا على قنطرة التشدد الديني، وهي قنطرة تختلف بداياتها عن نهاياتها كثيرا. في نهايتها، ينظر الشاب إلى حالته الأولى من التدين بوصفها ضلالا، إنه يتأمل حالة تدينه الأول المرتبط بأساسيات الدين بوصفه تدينا أنانيا لا يكفي للنجاة في الآخرة. 
وهكذا يصبح التدين الحق (المنجي من عذاب الآخرة/ الخلاص) ليس فقط مجرد التدين/ الالتزام الديني، وليس فقط التدين المتشدد، بل التدين الذي يأخذ على عاتقه إصلاح عالم المسلمين؛ ليكون عالما للمتأسلمين المتشددين، بحيث يُهمنون عليه باسم (الإسلام الصحيح)، في مقابل الإسلام غير الصحيح، والمقصود به: إسلام المسلمين.
المثالية والنقاء والغيرية والتوهج الروحي.. إلخ التي يتمتع بها الشاب في مرحلة المراهقة، وما بعدها بقليل، إضافة إلى ضعف وعيه بتعقيدات العالم من حوله، يستغلها المتأسلمون فيه غاية الاستغلال. أذكر وأنا في الثامنة عشرة، كيف أن بعضهم أراد استغلال عاطفتي الدينية ومثالية المراهقة لدي، من أجل تحويلي من حالة التدين الخاص إلى حالة التدين العام. كان هؤلاء يُهدونني بين الحين والآخر أشرطة عن الجهاد الأفغاني، بعد أن سبقوا ذلك بأشرطة وعظية لتعزيز التشدد الديني. لا أزال أذكر كيف كنت أسمع مآسي الأفغان، حيث أبشع صور القتل والاغتصاب والإبادات الجماعية، فأكاد أنفجر غضبا من هول ما أسمع. كنت كلما سمعت شريطا من هذه الأشرطة، أغضب من نفسي؛ لأنني لا أعمل شيئا، وأغضب من مجتمعي ومن وطني ومن المسلمين جميعا. 
طبعا، كأي مراهق، لم أكن أعرف تعقيدات الوضع السياسي محليا وعالميا، لم أكن أعرف معنى المعاهدات الدولية، ولا ماذا يعني البعد الجغرافي وسيادة الدول على أجوائها، وكنت أتصور أن بإمكان وطني أن يوقف المأساة الأفغانية في يوم واحد، وذلك بإرسال طائرات لضرب المعتدين في أفغانستان، وكنت أعتقد – كأي غر ساذج - أننا قادرون على تحدي العالم، بل ومقاطعة العالم أجمع.. إلخ من الأوهام المدمرة التي لا يزال كثير من جماهير الغفوة يُقاربون واقعهم من خلالها؛ فينتهون إلى ما يشبه الجنون.
إن تبسيط العالم على هذا النحو، مع تحميل النفس والمجتمع والوطن مسؤوليات أممية كبرى، هي أزمة كثير من الشباب المتدين. ليس كل الشباب يتجاوزون هذه الأزمة بسلام، ويفهمون العالم كما هو، بكل تعقيداته؛ فيصبحون أكثر واقعية/ عقلانية. كثيرون لم يتجاوزوا هذه المراهقة؛ حتى وإن لم يرتكبوا عملا إرهابيا مباشرا. ولهذا، فهم غاضبون على أنفسهم وعلى مجتمعهم، وعلى وطنهم، وعلى كل الدول الإسلامية التي يرونها متخاذلة، إن لم تكن متآمرة على المسلمين وعلى (الإسلام الصحيح!). ومن هنا نفهم، لماذا لا يدين هؤلاء الإرهاب والإرهابيين بشكل صريح، بل لماذا يُظهر كثير منهم تأييده للإرهاب في ثنايا القول، ويستغلون كل فرصة للتعبير عن غضب مُحرق، بل وعن حقد مكتوم.
إن هؤلاء الغاضبين هم الوقود الجماهيري للحراك المسلم الذي يستخدمهم كزخم جماهيري يُزاحم به خصماءه في الساحة الدينية والسياسية. جماهير الغضب الحماسي اللاواعي، هم إما أنهم متدينون متشددون ولكن بسذاجة، وإما أنهم مأخوذون بحالة الحماس الجمعي التي يذكيها المتدينون المتشددون في الفضاء المجتمعي العام. وهذا يفسر كيف أن بعض الإرهابيين لديهم حماس ديني عام، بينما لا تشي لغتهم وتصرفاتهم بأنهم منخرطون انخراطا مباشرا في الحراك الديني المتشدد، بل إن بعضهم من أصحاب السوابق الانحرافية الخطيرة التي لم ينزع عنها إلا قبل ارتكابه العمل الإرهابي بأشهر، وربما بأيام؛ فوجد أن تفجيره لنفسه أقصر طريق إلى تكفير كل تلك الآثام العظام.
إذن، ليس شرطا أن تكون متشددا؛ لتكون إرهابيا. يكفي أن تعيش في فضاء عام يصنع المتطرفون المتشددون توجهاته الكبرى التي تتواشج فيها البُنى العقائدية التأسيسية مع النزعات العاطفية الجامحة. وعندما تكون مراهقا - أو كمراهق – في رؤيتك الأحادية والمثالية للتاريخ وللواقع؛ يسهل استغلالك؛ لتكون في البداية قنبلة غضب، تتحول إلى قنبلة من الأحزمة الناسفة التي تستهدف المصلين، أولئك الذين سيصبحون في نظرك مجرد مشركين؛ لأنهم لا يؤمنون بحرفية (إسلامك الصحيح).
إن صناعتك كأرهابي، أي كقنبلة قاتلة، تبدأ من طبيعة التدين الذي تسمح له بأن يحتويك فكرا وعاطفة. الثقة العمياء بكل مصادر التديين هي التي تقودك إلى التدرج في سلم التشدد من حيث لا تشعر؛ لتجد نفسك مقتنعا تمام الاقتناع بأن تدينك الفردي لا يكفي، حتى ولو كان تدينا متشددا، وبأن عليك مسؤولية إصلاح العالم ولو بالقوة، وفي هذه الأجواء تصبح كل مأساة للمسلمين على ظهر هذا الكوكب تضغط عليك لتتقدم خطوة إلى الأمام في طريق الإرهاب، بل وتصبح جنايات الطوائف الأخرى التاريخية – الحقيقية أو المتوهمة – بحق طائفتك من مسؤولياتك، وبالتالي، فإن عليك أن تعدل – ولو بالقتل والإرهاب – مسار التاريخ القريب والبعيد؛ حتى يعتدل مسار الراهن.