الأربعاء، 29 يناير 2014

«مطوع القرية» والسياسي

«مطوع القرية» والسياسي

كل ما نشعر به من احتقان حول قضايا مهمة في 

المجتمع، وما يحدث اليوم من سجال اجتماعي 

ومجتمعي وجدل متنوع الأشكال، يتزعم كثير منه 

شخصيات إسلامية أو إسلاموية، تموضع حجتها 

في حاضنة دينية محضة، بغية استعادة أمجاد كان

يتمتع بها «مطوع القرية» وقيمة اجتماعية فقدها 

بسبب الوعي والتعليم الذي تمدد في 

المجتمع أفقياً وعمودياً. ولذا، نجد أن «مطوع 

القرية» يصارع على كل الجبهات وفي الاتجاهات 

كلها، ويقف ضد كل مشروع تنموي أو حضاري 

يُعنى بالتقدم والتحديث والعصرنة باسم الدين في 

مفهومه الضيق جداً، أو المغلوط فهمه جداً، مع 

أن الدين واسع ومتحرك مع الزمان والمكان، أو 

أن الدين منه براء، حتى أمسى مجتمعنا منقسماً 

على نفسه من ناحية، وأصبحت الأجيال الجديدة 

منفصمة في ذاتها ومنفصلة عن الخطاب العام، 

من ناحية أخرى.

وبالتالي، فإن كل هذا التشنج والاحتقان لا يعدو 

كونه محاولة يائسة وبائسة من فئات مجتمعية 

لاسترداد مجد قديم وقيمة اجتماعية ومكانة سادت 

ثم بادت، تتمثل ببساطة في تماس مفهوم 

«مطوع القرية»

 وما عهده من سيادة مطلقة مع سلطة وسيادة 

شيخ القبيلة «السياسي».

في الزمانات كان «مطوع القرية» كل شيء 

تقريباً في مجتمع ذي طابع قبلي وتقليدي وصغير 

ومحدود بالقرية التي تشكل الحقل الجغرافي 

والفضاء المعرفي والثقافي والاجتماعي 

والاقتصادي والاستراتيجي والسياسي. ما يميز 

«مطوع القرية» على سائر أفراد القرية عدد من 

المؤهلات، تبدأ بالقراءة والكتابة، وبالتالي حفظ 

ما تيسر من القرآن وبعض من الأحاديث وقصص 

السير والأساطير القديمة، متمكن من التحدث 

ويجيد شيئاً من الخطابة التقليدية، وعمره يتعدى 

الـ40، عنوان الحكمة والرشد والرشاد.

يقدم «مطوع القرية» خدمات كثيرة، مثل إمامة 

الصلاة وخطبتي الجمعة، وتعليم أبناء القرية 

القراءة والكتابة، وأول ذلك حفظ جزء أو أجزاء 

من المصحف - لاحظ لا يشمل التعليم بنات القرية 

ولا يدخلن في المعادلة - كما أن من الخدمات، 

أيضاً، مأذون شرعي للأنكحة ومفسر للأحلام 

وراق وطارد للجن والسحر، إضافة إلى شيء من 

الطب وآخر ذلك الكي.

كان «مطوع القرية» سيد القرية صغيرة الحجم 

ومحدودة العدد والأسماء، وكلهم «عيال قرية 

وكل يعرف خيه»، كما يقول المثل.

كانت القرية هي الأصل، وما هوخارجها «الآخر» 

سلماً أو حرباً، كان «مطوع القرية» مرتاحاً من 

الناحية المادية، إذ كان يتلقى الهدايا من أهل 

الصبية عندما يختمون جزءاً من المصحف، وهي 

أو عبارة عن شيء من الحبوب أو السمن أو  

التمرالبيض أو الدجاج، أو كسوة صيف أو شتاء، 

كل بحسب حاله المادية، ومن لم يجد ما يهديه، 

فدعوة في الجنح الأخير من الليل من والدة ذلك 

الصبي الفقير. كان «مطوع القرية» مرتاحاً، 

أيضاً، من حيث الوجاهة الاجتماعية، فهو على 

الدوام يتصدر المجلس في أية وليمة تقام في 

القرية ويتقدم الركب في أي من الطقوس 

الاجتماعية. كان «مطوع القرية» يقوي سيطرته 

بحكم تملكه الناحية المعلوماتية، فهو يعلم أسرار 

القرية كلها، يكتب الرسائل التي تصدر عن أي 

من أفراد القرية ويعلم محتواها، كما يتسلم ويقرأ 

الرسائل الواردة، وبذلك يعرف كل دواخل القرية 

وحاجتهم المالية وخططهم الحياتية وحتى 

خلافاتهم العائلية.

وبمناسبة الحديث عن الخلاف، كان «مطوع 

القرية» الحكم الفصل إذا حصل شجار بين 

الزوجين، وشهد المجتمع قصصاً كثيرة تفيد بأن 

«مطوع القرية» يقنع الزوجة بطاعة زوجها، 

مردداً عليها بأنه لو كان السجود مسموحاً لغير 

الله لأُمرت بأن تسجد لزوجها، هذا إذا كان حسنها 

وجمالها أقل من عادي، أما إذا كانت الزوجة 

شابة وحسناء وجميلة فلا يتردد بأن يسمع 

الزوجين آيات حول الإمساك بمعروف أو التسريح 

بإحسان، وعدم العضل وما يتوافق مع ذلك من 

الأحاديث، حتى تطلب الطلاق، ثم لا يستنكف من 

أن يتزوجها بعد أن تنهي عدتها.

هذه الثقافة ممتدة ومتوارثة حتى يومنا هذا، ومن 

الأدلة المعاصرة ما شاهدناه من أن أحد «مطاوعة 

قرية تويتر» الذي أهدى بعض الحسناوات هدايا.

إذاً، سيادة «مطوع القرية» كانت مطلقة 

لاستخدامه الدين بطرائق شتى، كقاعدة لتفسير 

وتسيير جميع العلاقات الإنسانية، ولذا لا يقبل 

بأن تنتقص أو ينازعه أحد على تلك السيادة التي 

يمدده دائماً باستنباط أحكام من الكتاب والسنة، 

ولو في شكل خاطئ، فهو يعلم وبقية أفراد القرية 

لا يعلمون أو يعقلون أو يتفكرون. حتى إن أي 

علم غير العلم بالكتاب والسنة لا يصنف علماً في 

مفهوم «مطوع القرية»، لأن ذلك علم لا ينفع.

لكن تلك السيادة اهتزت واضطربت في يوم من 

الأيام عندما تجرأ أحد أبناء القرية ممن تعلموا في 

الغربة، واعترض على تفسير «مطوع القرية» 

للآية «يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف» بأنه 

غير صحيح، وأن «مالك» ليس اسم أبي يوسف - 
عليه السلام - وأن «مالك لا تأمنا» في الآية 

تساؤل يعني: لم لا تثق بنا. عندها - وعندها فقط 

- شعر «مطوع القرية» أن مكانته لم تعد كما 

كانت، وأن كل المميزات التي اكتسبها من الناحية 

الاقتصادية أو الوجاهة الاجتماعية أو القابلية 

الجنسية بدأت في الأفول، فازداد شراهة وحساً 

بخطر يهدد وجوده. ولذا عمل على محاربة كل 

جديد في التحديث والتعليم والتقنية، كما عمل بكل 

جهد على أن يحول بين المرأة وأية ذرة من 

الاستقلالية أو التعليم أو العمل ما استطاع إلى  

ذلك سبيلاً، مستخدماً الدين للوصول إلى غايته 

الوحيدة، وهي التخويف.

هنا تأتي خطوط التماس مع شيخ القبيلة 

«السياسي». يذكر أن «مطوع القرية» حذر كل 

الحذر في علاقته مع «شيخ القبيلة»، فهو لا 

يستطيع منازعة السياسي دوره، لأن مسؤوليات 

«السياسي» أكبر من قدرة «مطوع القرية» على 

تحملها. فمسؤولية السياسي تشمل أقسى أنواع 

المشقة وتتمثل في البذل والحرب:

قتال لولا المشقة لساد الناس كلهم الجود يفقر 

والإقدام 

ومع هذا، لا ننسى أن «مطوع القرية» يقوم 

بتنغيص حياة «السياسي» بطرق شتى من وقت 

إلى آخر إذا شعر بأن مكانته الاقتصادية أو 

المجتمعية أو الجنسية تناقصت، ولذا يغض 

«السياسي» الطرف عنه، ليمارس أدواراً تبقي له 

شيئاً من تلك المكانة والسيادة المجتمعية. الخبث 

أو الدهاء المتبادل بين «مطوع القرية» وشيخ 

القبيلة «السياسي» يتجلى في ميدان العامة، ولذا 

يوجد «مطوع القرية» قريباً من التجمعات 

البشرية، ليمارس نفوذه مباشرة على البسطاء 

من العامة. فنجده في الأسواق حيث المتسوقون، 

وفي الإذاعة حيث المستمعون، وفي التلفاز حيث 

المشاهدون، وفي وسائل التواصل الاجتماعي  

حيث يكثر المغردون.

العجيب والمثير، أن «مطوع القرية» كان يرفض 

كل تلك الوسائل الحديثة، بل ويحرمها.

أخيراً تعلّم الجميع، وأبناء القرية كبروا ووجدوا 

«الشيخ غوغل» بين يديهم يخبرهم في التو 

واللحظة أن «مالك» ليس أبا يوسف - عليه 

السلام - وأن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - 

لم يُقتل ببندقية «كلاشينكوف»، كما أن عنترة بن 

شداد ليس من الصحابة أو التابعين.

ولذا، بات على السياسي أن يعيد تأهيل «مطوع 

القرية» ليجد له دوراً مناسباً ومبتكراً لا يكون 

فيه الدين وسيلة أو التخويف غاية. ونجزم بأن  

في إعادة التأهيل منفعة كبيرة للدين والدولة 

والمجتمع.

 طراد بن سعيد العمري *
الإثنين ٢٧ يناير ٢٠١٤
* باحث سعودي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق